كتابات

الفصل الثاني من رواية #الخوثي.. للكاتب : سام الغُبـاري

 

الفصل الثاني من رواية #الخوثي.. للكاتب : سام الغُبـاري

2 –

*في حدائق دار الرئاسة، شاهد حسين الحوثي أزهارًا لم يرَها من قبل، ألوانًا وأحجامًا، أنواعًا وأصنافًا، يداعب نسيم صنعاء أكمامها، اقترب من زهرة بلون الدم، عنيفة هذه الزهرة رغم رقتها، مهيبة رغم بساطتها، قطعَها وحملها في أصابعه، بلا رائحة، زمّ شفتيه، وأدخلها جيبه الخارجي بخفة لصٍّ. اصطفَّت جذوع النخل على مسار واحد في طريق إسمنتي متعرج ينتهي على عتبة مبنى من طابق واحد، صوت جنديٍّ يصيح، سيارة جيش تتحرك أمامه ببطء، الفناء خالٍ في هذه الساعة حيث تنتصف الشمس في سماء الله، دار حول نفسه كراقص باليه، تحسَّس رباط رأسه، نفض كتفيْه، واستدار حيث يقف اللواء يحيى المتوكل بعيدًا في حديث يبدو مهمًا مع الشيخ مجاهد أبوشوارب مستشار الرئيس صالح، وصاحب النفوذ البعثي في اليمن، بعد نصف ساعة أشار اللواء المتوكل لحسين الحوثي، فاقترب، حيّا كلٌّ منهم الآخر، يد أبو شوارب ثقيلة وجافة، هزّه في مصافحته، حدّق في عينيْه، ارتبك حسين مقاومًا حِدّة عيني الشيخ، لم يرُق له، همس في وجدانه: نعم هي هكذا الأرواح؛ منها يلتقي ومنها يأتلف، ثم همس أيضًا ليُثبت رؤيته بعبارة قرأها في مكان ما: لا تدع أحدًا يعرف مصدر قوتك، حتى تصير شرسًا، لا تكن غضًا وأحمقَ، لا تندفع للبوح بشيء من أسرارك، عِشْ بين الرماد كجمر، ثم انتفض كتنّين. هذه اللاءات الثلاث كانت محاذيره الأولى نحو تقديم مشروعه إلى الرئيس عليّ عبدالله صالح، كان يرجو إغفالَ صوت السلطة وسطوتها، إغوائها، خداعها، وسيعينه وزير داخلية صالح على ذلك.*

في صيف 2002، تحدث يحيى المتوكل إلى صديقه مصطفى نعمان وكيل وزارة الخارجية بداخل سيارة صالون ذهبية على الطريق المؤدي إلى ميدان السبعين قائلًا: هل تعرف مَن هم الناس الأكثر ظلمًا في اليمن؟ أدار مصطفى رأسه قليلًا إلى الجانب الأيسر، استطرد المتوكل بثقة: الهاشميون وأصحاب تعز!. زوى مصطفى حاجبيْه، متبسمًا بلطف: وهل الهاشميون مظلومون؟، هزَّ اللواء المتوكل رأسه بعنف، مضيفًا للتأكيد: وأصحاب تعز. شبَّك مصطفى نعمان كفيْه. وضعهما على شفتيْه، مغمغمًا: ربما. ودار نقاش طويل.

*التفت حسين الحوثي إلى المتوكل متسائلًا برفق: يبدو أنَّ الرئيس سيتأخر!، نظر اللواء المتوكل إلى ساعته: سيأتي الآن، ولم يكد يُنهي عبارته حتى لاح لهم مترجم الرئيس محمد صُدام يقترب بخطوات طويلة، الرئيس ينتظركم.
في قاعة الاجتماعات الصغيرة الملحقة بمكتب الرئيس جلس علي عبدالله صالح، على كرسيٍّ أبيض ذي مسند منتفخ، يدور بحركة غير مستقرة، أثارت قلقَ حسين الحوثي، الذي جلس بحذر قبالته، بينما استقر يحيى المتوكل على المقعد الأيمن، سأله الرئيس: ماذا لدى صاحبك يا يحيى؟ شرح المتوكل باقتضاب عن ضروراتِ إحياء المذهب الزيدي في مواجهة حركة “الوهابية السلفية” في صعدة، مضيفًا أنَّ كل المؤشرات تتحدث عن اختراق سعوديٍّ ممول لبنية المجتمع وعقيدته السائدة منذ قرون. هزّ الرئيس رأسه لا مباليًا، حسين الحوثي استئذن بالحديث قائلًا: نستطيع أنْ نجعل هذا المد الوهابي يتراجع أو على الأقل نمنعه من التمدد، بتكوين معسكرات صيفية شبابية لتنظيم اسمه (الشباب المؤمن) في بعض المحافظات لنشر ثقافة “الاعتدال” الزيدية! التي ستقاوم فكرة الإخوان والوهابية. لم يعلِّق صالح، اكتفى بإشارة من يده ليستمر، أضاف يحيى المتوكل أنَّ مثل هذه المعسكرات ستُنشئ توازنًا ذكيًا يستطيع الرئيس أنْ يحافظ عليه وأنْ يبقى رئيسًا للجميع. لمعَت عينا صالح، تناول حبة تمر من آنية فضية، قلَّب صحيفة الثورة، ثم صاح مناديًا بدخول خالد الأكوع. أمره بصرف 20 مليون ريال لدعم التنظيم الجديد، و700 ألف ريال أخرى موازنة شهرية لدعم أنشطته الفكرية، تسلَّم حسين الحوثي المال وجمع مبالغَ أخرى من شركة المترب للاتصالات، وغمضان تيليكوم، ويحيى الحباري مالك صوامع الغلال، ثم انطلق مهرولًا إلى صعدة.*

في 13 يناير 2003، الساعة الثامنة وخمسين دقيقة صباحًا، توقَّف طريق “لحج” على مشهد تحطُّم سيارة صالون لاندكروزر ذهبية اللون انفجر إطارها الأمامي وتدحرجت أمام السائقين بعنف، انبعج سقف السيارة وانغرست قطعٌ حادة منه في رأس وعنق يحيى المتوكل الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي العام، تطايرت مصابيح السيارة الأمامية، وطارت من النوافذ المحطمة ثلاثة أجساد ارتطمت بعنف على حافة الإسفلت، وتوقف دوران السيارة على الطريق الصحراوي مُخلفًا عاصفة من الغبار، هرع مسعفون متطوعون لتفقُّد حالات المصابين، توقفت السيارات على جانبي الطريق المؤدي إلى عدن. سيارة كراسيدا بيضاء مرَّت بهدوء بالقرب من الحطام، أخرج سائقها رأسه ونادى على آخرين صائحًا: أسعفوا المصابين. ومضى، صوت نشيج حاد وسط الحطام، عزالدين المؤذن، ويحيى علي ناصر وصالح مقبل عامر، ثلاثتهم نجوا بأعجوبة من الحادث، الثلاثة الآخرون الذين ارتطموا بالإسفلت: “صالح علي سعد المطري، ومحسن الجبري، ومطهر المتوكل” تهشَّمت رؤوسهم وقضوا على الفور، أُسعِفَ “يحيى المتوكل” إلى مستشفى ابن خلدون القريب من موقع الحادث، وصلت سيارة هايلوكس مسرعة تحملهم، اقتحمت بوابة المشفى، هرع الطبيب المناوب لمعرفة الحالات، ساعده المسعفون بحمل المصابين إلى أسِرَّة متحركة، اندفعت كلها من البوابة الداخلية للمشفى مرورًا بردهة طويلة، كان سباقًا مبهرًا بين الممرضين، أُعلِن عن وفاة يحيى المتوكل على الفور، لم يكن ثمة أمل في إنقاذه، قال الطبيب إنه وصل ميتًا. أمر الرئيس علي عبدالله صالح نقل الموتى والمصابين على متن طائرة إخلاء طبية إلى العاصمة صنعاء، في صباح اليوم التالي أقيمت جنازة رسمية لأربعة جثامين لُفَّت بعلم الجمهورية اليمنية، وانطلقَت من مركز الدفاع العرضي المجاور لباب اليمن إلى مقبرة الشهداء، تقدَّم الرئيس صالح، ونائبه عبدربه منصور هادي، وعبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشورى، وعبدالكريم الإرياني رئيس مجلس الوزراء، والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب الجنازة، مضوا بها إلى مقبرة الشهداء، تجمهر عشرات الآلاف على جوانب الطريق يشرئبّون بأعناقهم لمشاهدة الرئيس ورجاله، امرأة عجوز علِقَت في الزحام الكثيف، مزَّقت الأجساد المتدافعة كيسَ حاجاتها اليومي، تناثرت تحت أقدام الحشد أربعُ حبات طماطم ومثلها من البصل وثلاثة أصابع موز، صرخت العجوز وجعلت تضربهم بعصاها وكفيْها حتى تنبهوا وأفسحوا لها طريقًا للخروج إلى الرصيف المقابل.
في تلك الليلة، طلب الرئيس علي عبدالله صالح، إعداد برنامج وثائقيٍّ عن حياة المتوكل في بثٍّ مباشر على قناة اليمن الفضائية، في أربعينيته صدر كتاب طبعته دائرة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة يحوي 130 مقالًا تأبينيًا من مختلف القيادات العليا والأكاديميين، بعد 18 شهرًا ضرب علي عبدالله صالح طاولة اجتماعات طويلة حضرها أعضاء مجلس الدفاع الوطني الأعلى قائلًا إنه اختار طريق الحرب على “حسين الحوثي”، وأعضاء تنظيمه “الشباب المؤمن”.
في صباح اليوم التالي، نشرت صحيفة 26سبتمبر الخبر، ولأول مرة قرأ اليمنيون أخبار الحرب البعيدة هناك في أقاصي صعدة على رجل لم يقرأوا عنه شيئًا، شخص مجهول، يتسرب اسمه إلى كلِّ منزل، وعلى كلِّ شفة، لم يعرفوا بعد أنَّ فكرته العنصرية ستحرق اليمن، وأنَّ الحرب الحقيقية لم تبدأ، وأنَّ كل شيء أحبوه وألفوه سيختفي في بضع سنين.

*في منتصف يونيو 2004، استدعى علي عبدالله صالح، صحافيًا بارزًا يدعى “عبدالفتاح الحكيمي” سأله بحدة عن دعمه لتمرُّد حسين الحوثي المسلح، أجاب الرجل بحلق جافّ أنَّ الدماء التي تُسفك لم تكن مبررة، وأنَّ السلام يجب أنْ يحل ويغشى كل مناطق صعدة، وأردف موجهًا كلامه نحو الرئيس الذي بدا غاضبًا: لم نعرف في عهدك أيَّ حمامات دم فلا يلوث “علي محسن” بياض صفحتك، ثُمَّ يجرك نحو صدام دامٍ يبتغي إدانتك وتجريم نظامك. غاصت يد صالح في ركبة الصحافي والتفت إلى ابن أخيه الجنرال “عمار ” وكيل جهاز الأمن القومي، “أين الكتاب؟”. أسرع عمار إلى الداخل، بعد لحظات عاد، وفي يده كتاب منهج دراسيٍّ للصف الأول الثانوي، فتح الرئيس الكتاب وأشار بيده إلى عبارات كانت محدَّدة بالقلم الفوسفوري: اقرأ! قرأ الحكيمي بصوت مسموع “مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه”، توقَّف على صوت صالح يوضح: هذه عقيدتهم وقد تسامحنا ووضعناها في المنهج الدراسي بإلحاح من أحد مؤلفي هذا الكتاب، وعاد يقلب الصفحات، ثم أشار بأصبعه إلى اسم “ابراهيم الوزير” مؤكدًا: هذا الذي أزعجنا بإضافة ذلك الحديث.*

يقول الحكيمي في مقال نشره بعد عامين من إعدام علي عبدالله صالح، إنه أراد تخفيف توتُّر صالح مازحًا أنَّ المعني بقولهم “عليّ” في ذلك الحديث لم يكن عليَّ بن أبي طالب، بل عليَّ عبدالله صالح. لكنه ابتلع قوله في ظلِّ نقاش لم يكن يقبل المزاح.

*قبل أنْ تهبَّ نسائم الخريف، تمركزَت جحافل الجيش اليمني بقيادة اللواء علي محسن قائد المنطقة العسكرية الشمالية على تخوم مدينة صعدة، كان الهرج يعمُّ المدينة، القبائل تتوافد ومشايخ القرى يحضرون، في المكتب الصغير، في مساء الأربعاء اجتمع نفرٌ من فقهاء المذهب الزيدي باللواء محسن لمعرفة موقفهم من تمرُّد حسين الحوثي، تجمَّعوا حول طاولة مستديرة بمنزل محافظ صعدة العميد يحيى العمري، ارتدى عليّ محسن قميصًا فاتحًا وإزارًا حضرميًا مزركشًا جاءه هدية من رفيقه اللواء محمد علي محسن قائد المنطقة العسكرية الشرقية من جُملة هدايا منوعة بالثياب والعسل والعود والبخور الحضرمي الثمين، استدار اللواء محسن بوجه محتقن، وجّه سؤالًا حادًّا إلى ضيوفه:
– ماالذي يريده حسين؟ هل يعتقد أنَّ استهداف الجنود الآمنين في نقاط التفتيش سيمرُّ دون عقاب، وأنَّ دعواه المخادعة إلى رفع شعار الصرخة الخمينية والاستيلاء على موارد الدولة في ضحيان ومران أمر سنسكت عنه؟، “صلاح فليته” تلقى السؤال بأعصاب باردة كالجليد، حدّق في الخطوط المتشابكة لشال اللواء عليّ محسن، طوال الأيام والسنين والعقود الماضية كانت صعدة مسرحًا مُطوَقًا لتعاليم الزيدية، أسئلة الجيش اليوم تأخَّرت جدًا، الجيش لا يسأل، بل يحمل السلاح ليقتل الفكرة ويمنع العقيدة ويسجن الأتباع. فليته عجوزٌ سبعينيٌّ، وجه جامد لا يكاد شيء فيه يتحرك، بشرته نحاسية، لولا أنَّ طرفيْه يرمشان لظننت أنه تمثال من الشمع لأبي جهل، مربوع الشكل، أسَّس مع ثُلة من فقهاء المذهب الزيدي في 1990جناحًا سياسيًا أطلقوا عليه اسم “حزب الحق”، كان تعبيرًا منظمًا للنخب الزيدية الموالية لعائلة “حميد الدين” آخر أئمة اليمن الشمالي، اشترط عليّ عبدالله صالح تنازُلَهم عن فكرة الولاية الهاشمية التي تُمثل عصب الزيدية الإمامية وبيئة تكوينها. جاء بيانهم ملتويًا يؤيد “ولاية أي مُسلم” على اليمن، مُرددين ما أشيع عن مؤسس الزيدية الأول “زيد بن عليّ” اعترافه بولاية المفضول في وجود الأفضل.*

وزير الخارجية عبدالكريم الإرياني شرح لـ “عليُّ عبدالله صالح” معنى ذلك ، اسند الإرياني مرفقه إلى جذع نخلة باهتة في حديقة دار الرئاسة ، قال أنَّ “زيدًا أقرَّ بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، كأمر واقع لكنَّ ذلك لم يمنعه من تزكية عليِّ بن أبي طالب كـخليفة كان مُرجحًا كـ “أفضل” منهم” . رئيس تحرير صحيفة الصحوة اعتبر ذلك البيان مجرد مهارة لغوية استغلتها الزيدية وعبّرت بصمت عن اعتراضها على أول ممارسة شوروية في الإسلام” في السطر السادس من افتتاحيتها ليوم الخميس 25 اكتوبر 1990 كتبت “الصحوة” هذه العبارات “تنافُس أبي بكر وسعد بن عبادة على الخلافة حدث ديمقراطيٌّ في أصله وفكرته وتدافعه، تمنُّع عليِّ بن أبي طالب عن مبايعة أبي بكر أيضًا حقٌ ديمقراطي، اعتراضه الأول على نتائج تلك “الانتخابات” في صورتها البدائية أيضًا تعبير عن حقه الطبيعي كرجل حُرٍّ “.

*في عدد الأسبوع التالي كتب حارث الشوكاني مُفسّرًا الجدل الخطير حول المعاني الحقيقية لمصطلح “الأفضل والمفضول” بمقال مستطرد في الصفحة الخامسة على مساحة الثلثين الآتي : ” الزيدية اعتقلت الشورى، صادرت حقَّ الناس “غير الهاشميين” في الطموح المشروع لقيادة الأمة. مثّل تمرُّد زيد بن علي على خلافة هشام بن عبدالملك أول عصيان مسلح مدعوم فارسيًا على ملك عربي، الفكرة المقدسة لوراثة النبيِّ محمد، صلواتُ الله عليه، مثَّلت هاجسًا عنيفًا للزيدية التي انقسمت إلى فئتيْن ظاهريًا؛ جناح البترية: الذي أسَّس نظرية جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل، والأفضل في ذلك يعني الهاشمي العلوي الذي ينحدر من نسل الحسن والحسين ابنَيْ عليِّ بن أبي طالب. الجناح الآخر “الجارودية”: نسبة إلى ابن أبي الجارود الذي أطلق نظرية عنصرية تُحرّم ولاية غير العلوي على أيِّ أرض إسلامية. في زمن الحاكم غير الهاشمي تتحول الزيدية إلى بترية، بمجرد وصول أحدهم إلى السلطة يتحولون جميعًا إلى جارودية، سُلالتهم تتغذى على موارد الناس، وتبدأ علاماتُ تشكلهم كطبقة نبلاء تُغلفهم قداسة النسب النبويّ “.*

قانون الأحزاب الذي صدر عقب ائتلاف اليمنيين في دولة واحدة حرّم تشكيل الأحزاب على أساس مذهبي، أصابع مجهولة أجازت إنشاء الحزب الذي احتال على الديمقراطية الجديدة، ودفعت به منظومة التعدد السياسي إلى عمق الحياة السياسية الوليدة لليمن الموحَّد، “حسين بدرالدين الحوثي” أحد أولئك المؤسسين، تربيته العنيفة شكلت وعيه النامي وطبعتْه بلونها العنصري، دفعه حزب الحق إلى انتخابات 1993 البرلمانية، فاز بأصوات الناخبين، لم يقُل لناخبيه إنه لا يؤمن بهذا الهراء، مضى هادئًا بلا ضجيج، ركب سيارته صالون رمادية موديل 1990، أشعل محركها، تاركًا صعدة وراءه حتى حين، اعتلى منصة البرلمان وأقسم بالله وأشهده على إيمانه بالديمقراطية وحمايته لجمهورية اليمنيين.

*في 21 مايو 1994، أذاع بيانه الخطير مؤيدًا إعلان عليّ سالم البيض المنحدر من أصول هاشمية انفصال اليمن الجنوبي عن شماله، أسميت تلك المحاولة المسجلة بـ”فكّ الارتباط”. أصدر عليُّ عبدالله صالح على الفور توجيهاته باعتقال حسين الحوثي، مزّق حصانته البرلمانية ورمى به في السجن. علي سالم البيض هُزم وفرَّ إلى عُمان، في انتخابات 1997 البرلمانية حاول حسين الحوثي الترشح من جديد، لكن عليَّ عبدالله صالح منعه، تدخل يحيى المتوكل واقترح ترشيح شقيقه يحيى الذي فاز مرشحًا عن حزب الحق، ثم أعلن انضمامه إلى حزب المؤتمر الشعبي العامّ، الحزب الذي هزم حليفه السابق “التجمع اليمني للإصلاح” وحصد أغلبية ساحقة أهَّلته للانفراد بالسلطة، انضمَّ آخرون من المستقلين والإصلاح إلى المؤتمر الشعبي، البرلمانيون أيضًا مثل رعاياهم يميلون للمنتصر.*

شعر الحزب الاشتراكي الذي كان يمثل دولة الجنوب اليمني، بمرارة الهزيمة، انضمَّ إليهم حزب الإصلاح المُعبر عن التيار الإسلامي عقب طردِه من حكومة صالح، تآلف المهزومون منذ العام 1962 في تيار سياسي معارض أطلق عليه اللقاء المشترك، صار “أحمد الشامي” الأمين العام الجديد لحزب “الحق” رئيسًا دوريًا لهذا التيار الإمامي، لم يُدرك عليّ عبدالله صالح أنَّ خسارته الحزب الذي سانده منذ نعومة أظافره الرئاسية سيندفع إلى الثورة في 2011، وأنَّ الحزب الاشتراكي الذي أهدى إليه صناعة تاريخ إعادة الوحدة لم يكن مُستعدًا لتلقي الهزيمة العسكرية دون أنْ تجد السلطة المنتصرة بديلًا فكريًا وعقائديًا يمثل الجنوب، كان المؤتمر والإصلاح تعبيرًا عن حزبية الشمال اليمني، في ظل الفراغ، تشكل تيار غاضب عبّر عن خيبة الأمل الجنوبية لمآلات ما بعد حرب صيف 1994، كان عليّ عبدالله صالح يعيش كملك في صنعاء، موجهًا اهتمامه إلى بناء مرافق جديدة في عدن وحضرموت اللتيْن تبدلَت مشاعرهما تجاه صنعاء.

*كانوا -إذَنْ- ألفي شاب خلاصة ما جمعهم حسين الحوثي من معسكراته الصيفية المسكوت عنها، من ذمار وعمران وصنعاء وحجّة، ألفا مقاتل جاء بهم إلى صعدة لينفق عليهم من أموال الحكومة ويُدربهم، لم يكن يحتاج سوى بضع سنوات أخرى ليجمع المزيد ويخترق شِعاب القرى بمعسكراته، يُلقنهم دروسًا عن الولاء للزيدية وشتم معاوية وتحميل أبي بكر الصديق كلَّ خطايا الأمة الإسلامية، لم يكن يريد شيئًا أكثر من شراء الوقت، الوقت من ذهب، طموحه المكتوم في الوصول إلى إمامة الزيدية يمنحه سُلطة إجبارية على بقية العمائم المرتعشة، هو وحده الذي تنطبق عليه شروط الإمامة الرئيسة “أنْ يكون عَلَويًا ذكَرًا”، هو كذلك، يُثبّت صورة منسوخة لشجرة عبّاد الشمس في صدر ديوان دارهم القديم في صعدة، ومثلها نسخة ملونة على واجهة بهو فيلا اشتراها من رجل أعمال حضرميٍّ ينتمي إلى آل باعلوي خلال إقامته البرلمانية في العاصمة صنعاء، كُتب على كلِّ أغصان شجرة عباد الشمس وأرواقها اسمًا لأسلافه، وفي زهرتها الكبيرة، نُحت اسم النبي محمد صلواتُ الله عليه كجدّ ينتمون إليها نسبًا. وماذا بعد “أنْ يخرج على الناس شاهرًا سيفه”؟، لقد اضطر إلى الخروج قبل اكتمال أذرُعه التي يطمئن إليها، وكشفَت أجهزة الأمن السياسي خفايا مؤامرته العنصرية لاسترداد حُكم الإمامة، لكنه خرج، ولم يختبئ وسيرفع سقف التضحية، ويناور حتى يبلغ مأمنه، أو يهلك دون ذلك.*

خطط حسين الحوثي لكلِّ شيء، لكن الوقت سرقه، وأنباء المواجهة المستعرة تدكُّ أحلامه كسيف ديموقليس مسلطًا على عنقه، جيوش اللواء عليّ محسن تعدو مندفعة بولاء شديد الحماسة لإجهاض ثورته المسلحة قبل أوانها، مايزال التنّين صبيًّا في مهده الأسطوري، وهو عالق في جبال مران، في جرف سلمان، مُتنقلًا بين هضابها وكهوفها، فيما كشّرت الحكومة عن أنيابها، وأضاءت تقارير المخبرين السريين معالم الطريق للقيادات الأمنية كاشفة عن أسماء خطرة في مدن أخرى، تعرَّضوا جميعًا للاعتقال والمساءلة العنيفة.

*في تلك الأثناء، كان نائب البرلمان “بشار الحرازي” يضاجع فتاة بيضاء كالحليب، انتظرتْه طويلًا على بوابة مجلس النواب الحديدية الضخمة، سألت عسكري الخدمة عن نائبها المنشود، رفع العسكري شاشة هاتفه الجوال. شاهد الساعة: 12:48، استدار بشارب رفيع متدلٍّ إلى يسار الوجه الغائر، وعين وحيدة: سيخرج بعد قليل. كانت الشمس عاتية في أواخر صيف صنعاء، عباءتها السوداء تخفي داخلها لحمًا ناضجًا جفاه النوم وأضناه الأرق وأعياه الحرُّ، شيئًا خرافيًا من تلك التضاريس الناعمة المنقوشة في كتب السيوطي. في الخمس دقائق الأولى لتوكيد العسكري الأعور، تجاوز النائب المحترم عتبة باب البرلمان، نظارة شمسية نوع Cartier، جاكتًا بنيًا خفيفًا بخطوط بنفسجية مربعة ومتداخلة، بنطالًا كاكي اللون، حذاءً بُنيًّا لامعًا، ورشاقة شاب ناضج، وعلى ثغره ابتسامة ثقة، وجهه الأبيض تظهر عليه آثار النعمة، عيناه البُنيّتان كلوْن جواربه تراقبان العابرين، متجهًا نحو فناء مجاور لمبنى البرلمان استخدمتْه السلطات مواقفًا لسيارات النواب الأفاضل.*

وقفَت أمامه، فأحسَّ ارتعاشة، زغب ذراعيه ارتجف، تفصَّد عرق مفاجئ في إبطيه، خفق قلبه سريعًا، وتذكر ذلك الشعور اللذيذ الذي ظنَّ أنه تجاوزه، وعاوده فجأة، شعور الفتى المراهق في لقاء صدفة بأنثى تضج فتنة، ينسى أمامها مَن يكون، يتلعثم، وتصير أقصى رغباته أنْ يأسر قلبها، قالت: أنا بثينة. تمنى لو أنَّ اسمه جميل، كانت الحكاية ستعود من سطور التاريخ وثنايا العشق وغرام الخيام وضجيج البادية، تتجسد مثل أيِّ تكرارٍ للحكايا التي يُصرُّ المؤرخون أنها تعود، وتدور، تلف حول رأسه هو. التقط منديلًا مخبَّأ في جيب سترته الداخلي، جفَّف عرقًا خفيفًا تجمّع حول مقدمة رأسه، لم يعد يرى سواها في تلك البقعة، وذلك الوقت، في ذروة الزحام، هو وهي فقط وحيدان في منتصف طريق فرعيّ، لم يسمع صوت المارة ، نسي جلبة الباعة الجائلين، وهتاف الناس، تذكر أغنية عبدالحليم حافظ، إني أغرق، أغرق، إطراقة حليم، مشاعره، انثيال خصلات شعره الناعم على نصف جبهته. انتزعتْه من بحره اللُجّي، ورمت إليه عبارة أخرى، أنا ناخبة من رعاياك. ياااه، رعاكِ الله، رعاياي أنا؟، يا إلهي! من أين جاءت هذه الساخنة لتزيد سخونة الصيف، وتشعل تاريخه وأمسه وغده؟! تلعثم قليلًا.. تفضَّلي، أسبلت جفنيْها بأهداب طويلة غسلت زجاج عينيْه من صدأ السياسة ولعنة الهمّ وألاعيب المصالح، شعر أنها غمزَت، سمع صوتًا داخله، صوتها هي، يقول: أريدك على انفراد. انفراد فقط؟، انفردي بي، خذيني أنّى شئتِ، هيت لكِ. أغلقي الأبواب، اسجني نائبك الأعمى، كبِّليه واطرُقي رأسه وصدره بكرباج، دقّي أصابعه، وأفقئي عينيْه. اقليعهما من محجريهما واطفئي في كل مِحجر احتراق سيجار عريض. بينما أزاحتْه بثينة عن الطريق بلمسة من أصبعها على كوع ذراعه. أحسَّ بالحب. أحب مهنته هذه اللحظة، فوزه القديم قبل عام لم يكن يعني له الكثيرَ حتى وقف خاشعًا هنا أمامها، ليت كلَّ شيء، كلَّ حركة، كلَّ نملة، كلَّ حيوان، كلَّ طائر، كلَّ سعفة نخيل، كلَّ صوت يتوقف، ويبقى صوتها. ساقتْه وراءها مثل كلب ودود، يهز ذيله بخطى متسارعة، وعلى ظلال سور المبنى، اتكأت المعجزة وفي أصابعها قصاصة ورق. همست: إنه رقم هاتفي، أنتظر اتصالك اليوم الساعة السادسة في المغرب. واستدركت: تعرف أنَّ الوضع هذه اللحظة صعب. لم يتحرك، تسمّر مثل خشبة مُثبتة على جدار مكتبته المرصوفة بكتب لم يقرأها، نسي أنَّ له بيتًا، وعائلة، وأصدقاء، نسي اسمه، وردَّد مبهوتًا: أتصل بكِ أنا؟. أومأت بخفة فطار عبيرها إليه، تنشَّقه كالذي يكتشف عطرًا للمرة الأولى، ظنَّ أنه دخل آلة الزمن مسافرًا حيث يدور الكون حولهما، في هذه اللحظة، في هذا الموقف، من العصر الجيوراسي جاء ليشتم عطرها فقط، ثم يعود إلى زمنه يُقسم أنه رأى شيئًا يشبه النساء وليس بامرأة، كائنًا أسود في وسطه لؤلؤة متوهجة، ليس في كلِّ المحار لآلئ، فلا لؤلؤة إلا بثينة، ولا ابن كلب إلا هو.

*رنين الهاتف يضجُّ بصوت كالفحيح. دار رأس “بشار الحرازي” حنقًا إلى طاولة بيضاء مُثبتة على سريره العريض، متأسفًا قال: هل هذا وقته؟، اقترب ليقرأ الاسم الظاهر على شاشة الجوال، انتفض كالملدوغ وهبّ عاريًا على قدميْه ويده في الهواء تلتقط الهاتف، انتظر لحظات حتى هدأت أنفاسه، أعاد ترتيب شَعر رأسه، كأنَّ الذي يهاتفه يراه، نسي أنه لم يكن يرتدي شيئًا سوى جِلده، ارتبكت “بثينة” لوثبته السريعة واهتزت أردافها لانقطاع وصلهما الحميم، انطفاء التيار بقذيفة متصل انتزع عشيقها من بين ذراعيْها المكتنزتين، حاولت أنْ تسأل: من هو؟، أشار بسبابته أنْ تصمت، وضغط على زر الإجابة : أهلًا فخامة الرئيس.*

قال “علي عبدالله صالح” إنَّ “حسين الحوثي” مدعوم من إيران وحزب الله في لبنان، كان “بشار الحرازي” يمشط غرفته ذهابًا إيابًا، منصتًا، وصوت الرئيس يعلو بوضوح من سماعة الهاتف، التقطت “بثينة” ورقة صفراء من دفتر ملون مخصص للملاحظات في درج السرير الخلفي وكتبت: أرجوك حبيبي افتح مكبر الصوت لأسمع صوت الرئيس. اقتربَت منه ووضعَت أمام عينيْه الورقة الصغيرة، كانت تتقافز وتنثني، تدور حول نفسها كراقصة بالية. شعرها يطير مبعثرًا ثم يعود إلى سيرته الأولى منسدلًا إلى آخر الجذع المنثني على مؤخرة وردية نافرة بزغب أشقر ناعم يتصل بأرداف طازجة تقف على ساقيْن لامعتيْن. في الجزء الأعلى يهتز نهدان كموج في غادية المد وعادية الجزر، ما يبرح أحدهما أنْ يصطدم بساحل صدرها الذهبي حتى يعود الآخر إلى الموج في مغامرة لاتتوقف، ملامحها تشي برجاء عارم، اعتصر النائب المحترم حلمة نهدها الأيسر، ندت منها آهة خفيضة، وتبسَّمت في غنج لا يقاوم، لبّى النائب العاري رجاء عاريته وجاء صوت صالح ” تخيل أنَّ يحيى المتوكل -ابن الحيزبون- هو أول المتحمسين لدعم هذا السيد المعتوه، وجاءني إلى دار الرئاسة وجلسنا وتعهَّد لي شخصيًا أنَّ صاحبه لا يريد سوى إيقاف المد الوهابي، لم يعجبه السلفيون الذين يؤمنون بطاعة وليِّ الأمر، وورطني بأناس لا يعقلون ولا يفكرون، كل أمنيتهم وطموحهم، متى يأتي سيد هاشمي يحكمهم، لم يعجبهم علي عبدالله صالح لأنه يمني من سنحان”. توقف صالح لهنيهة، ثم عاد صوته أكثر حنقًا وحِدّة “وأنت يا بشار المجنون، قُلنا إنك عاقل، لكن أنا أعلم مَن يؤثر عليك ويجعلك تقف مع هذا السيد، أنتم كلكم مجانين”، ضحك بشار الحرازي بعصبية وكأنه لم يشأ أنْ يتعرض لهذه اللغة المؤنِّبة على مسامع محبوبته الأثيرة، مُعلقًا “وما شأني أنا؟، لا يجوز أنْ يستعصي عليكم حسين الحوثي فأكون أنا المُلام، نحن يا فخامة الرئيس نقول فقط إنَّ من حقِّ حسين الحوثي التعبير عن رأيه، هذا ما تضمنه بيان أحزاب المعارضة الممثلة في مجلس النواب”، ارتفع صوت الرئيس علي عبدالله صالح بقوة: “ألم أقل لك أنا أعلم مَن يؤثر عليك؟، اترك حميد الأحمر وأفكاره، إنه مجنون آخر مثل السيد حامل عُقدة الشيخ”، ابتلع صالح شيئًا في فمه، وختم حديثه بحسم: “اسمعها مني، لن ينالوها بعد صالح، ومن عاش خبّر”. أغلق الرئيس سماعة الهاتف بعنف، بصوت كصفعة اهتز لها النائب المحترم وارتعشت أصابعه للحظة، رمى هاتفه على جانب السرير المُدثر بعباءة قطنية بيضاء، هديل حمامة تصل عشها في كوة الغرفة المفتوحة إلى الخارج، بوق سيارة قديم يطلق نفيره الأقصى، وعجلات تزأر مكابحها، ثم ارتطام مُدوٍّ. هرج بعيد، أصوات تعلو وتخفت. شتائم، وشتائم متبادلة. احتضن نائب البرلمان الذي سيصبح عميلًا عضويًا لإيران رأس حبيبته وضمّها بشدة إلى صدرها وهي هاجعة في حضنه مثل عود قصب ندي ينتز ماءً من مسامِّه الرفيعة، علّق بضجر: هذا مجنون، يعتقد أنَّ الناس ستصدق خبابيره السخيفة!. ثم اعتصر بثينته في صدره أكثر، وأكثر. وأكثر.
..
يتبع

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى