يمن اتحادي هو منصة إخبارية رقمية رائدة تسعى لتقديم تغطية شاملة وعميقة للأحداث الجارية في اليمن، مع التركيز على تقديم صورة واضحة وموضوعية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد

حين أطفأ القدر النور... رحيل الشيخ ناجي جمعان الجذري

مصطفى المخلافي

 

الكاتب : مصطفى المخلافي 

في مساء لم يعد يشبه الأمسيات، مساء كأن الزمن اختلسه من دفتر الخلود، انكفأ فيه الضوء، وارتجفت فيه القلوب، أغمض الشيخ ناجي جمعان الجذري عينيه، لا لينام كما ينام الناس بعد كد النهار، بل كمن طوى الصفحة الأخيرة من كتاب الحياة، ووضع القلم ثم ابتسم للمصير الأخير، لم يكن وداعه عابراً، بل كأن الأرض ضمت ذراعيها طوعاً لتحتضنه، وقد سئمت مشيه المتعب على تضاريسها، فأرادت أن تمنحه راحة لا تنكسر، أو ربما لعل السماء اشتاقت لقدومه، فأرسلت نداءها خفياً، وعُرج بروحه إلى حيث لا ضجيج ولا نزاع، إلى حقل النور الذي لا تنطفئ فيه شموع.

إن من يعرف الشيخ ناجي جمعان، يعرف رجلاً إذا قال فعل، وإذا وعد وفى، وإذا تصدر لقضية أنصف فيها وعدل، لم يكن يسعى لمجد شخصي، بل كان يرى المجد الحقيقي في قول الحق، والدفاع عن كرامة الإنسان والوطن.

ولذلك فإننا اليوم لا نودع رجلاً، بل نودع صفحة من تاريخ الشرف، ورجلاً عاش عمره للناس لا لنفسه، نودع أباً وأخاً وشيخاً، وركناً من أركان المروءة.

كان الشيخ ناجي جمعان رجلاً من زمن آخر، لا تحكمه القوانين المكتوبة، بل المواثيق الممهورة بصدق الكلمة وشرف اليد، كان يُصلح بين المتخاصمين كما يُصلح الفجر ما أفسدتهُ عُتمة الليل، وإذا تكلم أنصت الصخر لا الناس فقط.

كل من عرفه كان يقول، الشيخ ناجي لا يُحكى بل يُعاش، كيف لا، وقد كان مجلسه وطناً، وكلمته سيفاً، وصمته أكثر فصاحةً من كثير من الخُطباء، لم يكن شيخ قبيلة فحسب، بل حكيمها، وبوصلتها الأخلاقية، وظلها حين تغزوها شمس الفوضى.

رحيله لم تُبكيه العيون فقط، بل بكت المواقف، وبكى الميزان الذي كان يعدل الكفتين، بكته المبادئ التي كانت تستند اليه كلما ضعفت، وكل من أتى لتقديم العزاء لم يكن يواسي أهل الشيخ، بل يواسي وطن، وبرحيل مثل هذه الهامة الوطنية، فقد الجميع رجلاً كان يملك القدرة النادرة على الجمع بين الشدة واللين، وبين الحكمة والهيبة، بل أن السؤال هو؟ كيف للفراغ أن يكون بهذا الثقل؟ كيف لصمت الموت أن يدوي بهذه الفاجعة ودون سابق إنذار؟ وكيف لرجل واحد أن يترك في الرحيل ألف فراغ لا يمكن ملئه؟ واليوم حين غاب عنا، تسارعت الخُطى لاجترار ذكراه، لا لتعويضه، لأن ذلك مستحيل.

رحل الشيخ ناجي جمعان الجذري، سكنت حركته، نعم، لكن لم تمت فيه الحركة، وسيظل صدى صوته يهيم في جنبات المكان، لا تسمعه الآذان بل الأرواح، كريح عتيقة مرت من هنا، ولم تَعُد، لكن لا أحد يجرؤ على نسيانها.

لقد عاش الشيخ ناجي جمعان كجذع نخلة في قلب الصحراء، لا يهتز لعاصفة، ولا ينحني لظمأ، كان حكمة تمشي على قدمين، ومرآة يرى فيها كل واحد من القبيلة ملامح الجد الأول، وحزم الأب، حتى أنه إذا تكلم سكنت العيون، وصغت القلوب قبل الآذان.

 لم يكن رحيله رحيل بالمعنى الذي نألفه، بل كان عبوراً، وانتقالاً هادئاً من صخب الجسد إلى سكون الذكرى، من ثقل التراب إلى خفة المعنى، من زحمة الأيام إلى فسحة الأبد، رحل الشيخ ناجي كما يرحل الضوء عند المغيب، لا يخفت بل يتسامى، وتحول إلى طقس سري لا يُرى، بل يُحس، ولم يكن رحيله في مساءٍ باهت كما تموت الأشياء، بل في مساء اكتسى بهالة من السكينة، كأن الزمن توقف لحظة كي يهمس للكون، اصمتوا فالروح تعبر.

وصل اليوم الجثمان الطاهر إلى تراب أرض الوطن، إلى مطار صنعاء الدولي، فاستقبله الآلاف من المخلصون بقلوب خاشعة في مشهد مهيب يعكس حالة الوفاء لهذا الشيخ الجمهوري العتيق، مشهد جعل الأرض تنحني إجلالًا، فارتفعت الأكفّ بالدعاء، وامتزجت التكبيرات بدموع الوداع، فقد عاد من وهب روحه للوطن، فاحتفى به التراب كما تحتفي الأم بولدها العائد من معركة الدفاع عن كرامة الأرض والعرض، وصل جثمانه الطاهر مطار صنعاء فسارت خلفه جموع غفيرة تصلي عليه وتشيعه إلى مثواه الأخير، كما يليق برجل حمل الوطن في قلبهِ حتى الرمق الأخير.

أما من باع الأرض وتنكر لنداءها، فكيف لها أن تضمهم في أحشائها، الأرض لا تأوي سوى المخلصين، الذين يمضون إلى مثواهم الأخير محمولين على سواعد الوفاء، محفوفين بهيبة المجد وخلود الذكرى.

لحى الله الفراق ولا رعاه
         فكم قد شك قلبي بالنبال
أقاتل كل جبارٍ عنيدٍ
        ويقتلني الفراق بلا قتال

ختاماً:
نسأل الله أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وأن يلهم أهله وذويه ومحبية الصبر والسلوان.

اضف تعليقك على المقال