الكاتب : صهيب المياحي
في تعز، لم يكن القلم مجرد أداة، بل كان كيانًا وجوديًا يُشكل وعي المدينة، جسدًا لفلسفة المقاومة ضد الجهل، وصوتًا للحياة في وجه القمع. هذه المدينة، التي لطالما كانت معقلًا للفكر ومنارة للحرية، أضحت اليوم مسرحًا لمحاولة اغتيال جوهرها، لا ككيان جغرافي، بل كمعنى عميق يحمل ذاكرة الإنسان وتطلعاته.
حين تُسحب المدينة قسرًا من فضاء الفكر إلى فضاء العنف، لا يكون ذلك مجرد تبديل للأدوات، بل هو استهداف للبنية الأنطولوجية للمكان والإنسان معًا. فتعز لم تكن تُعرّف بأبنيتها أو جبالها، بل بعقلها الجمعي، بعلاقتها بالكلمة كقوة خلق وبالفكرة كحتمية وجود. ومن هنا، يأتي السلاح كأداة لا لتغيير واقع، بل لتدمير رمزية، لاغتيال المدينة كمعنى وتحويلها إلى فضاء وظيفي خاضع لمنطق القوة العارية.
إن هذا التحول المأساوي ليس إلا انعكاسًا لإرادة تسعى إلى نزع الروح الفكرية واستبدالها بمنطق الغريزة البدائية. حين يُجبر الإنسان على حمل السلاح بدل القلم، لا يُجبر على الدفاع عن جسده فقط، بل يُسحب من مسرح العقل إلى حلبة القتال، حيث تُقتل الأفكار أولًا قبل أن تُزهق الأرواح. السلاح هنا ليس أداة دفاعية بل وسيلة لإعادة هندسة الوعي الجمعي، لإنتاج إنسانٍ مقطوعٍ عن جذوره الثقافية، منكسر أمام منطق العنف الذي يُفرض كشرعية بديلة.
تعز، التي كانت تتنفس الحرية عبر أزقتها وأسواقها، تواجه اليوم محاولة محوٍ وجودية، حيث يُراد لها أن تنسى ذاتها وتعيد تعريف نفسها كمدينة تُكتب بالدماء لا بالحبر. إنهم لا يريدون فقط إسكات القلم، بل دفن الفكرة ذاتها، الفكرة التي كانت دومًا القوة الحقيقية التي تُرهب الطغاة أكثر من أي رصاصة.
ومع ذلك، تعز ليست فراغًا يُعاد تشكيله بقرار خارجي، بل ذاكرة متجددة تُقاوم النسيان. في تفاصيلها الصغيرة، في جبالها التي تحرسها كأمٍ تتشبث بأبنائها، وفي أرواح أبنائها الذين يحملون صخب الكلمة حتى في صمتهم، تستمر المدينة في مقاومة هذا الاغتيال الممنهج.
إن ما يحدث في تعز هو اختبار فلسفي عميق لفكرة الإنسان ذاته: هل يمكن للسلاح أن يقتل الفكرة؟ هل يمكن للقوة العمياء أن تُخضع روحًا تشكلت عبر قرون من التحدي والإبداع؟ الإجابة تأتي من صلابة القلم، الذي وإن انكسر، يترك أثرًا أعمق من الرصاص.
تعز ليست ميدانًا يُراد له أن يُعرف بالعنف، بل هي معقل لمعركة أزلية بين الفكرة والعدم. وبين هذا الصراع، يبقى الحبر، بكل هشاشته، أكثر بقاءً من الحديد، لأن الكلمة التي تكتب من رحم الألم هي الوحيدة القادرة على تحدي الزمن، وإعادة خلق الحياة من رمادها.
اضف تعليقك على المقال