الكاتب : عبدالسلام الدباء*
هل تخيَّلت يوماً أن رئيس دولةٍ ما، بعد عقودٍ من الحكم، قد يجد نفسه على سريرٍ في مستشفى أجنبي، يحيط به الحراس أكثر من الأطباء؟!..
مشهدٌ كهذا قد يبدو مأخوذاً من رواية سياسية ساخرة، لكنه –للأسف– حقيقة تتكرر في عالمنا العربي، حين يصبح المستشفى الألماني أو الفرنسي هو الملجأ الأخير لـ «فخامة الرئيس» الذي لم ينجح طوال حكمه في بناء مستشفىٍ واحدٍ يثق به داخل وطنه!
نستحضر الآن تلك القصة التي تُروى عن أحد الرؤساء العرب أثناء علاجه في ألمانيا والتي تبدو كأنها نكتة، لكنها تحمل في طيّاتها حِكمة مُرّة.. فعندما سأل المريض الألماني المجاور له عن هوية هذا الرجل المحاط بكل تلك الإجراءات الأمنية، قِيل له: إنه رئيس دولة عربية يحكم منذ أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً.. فكانت ردة فعل الرجل الألماني حاسمة، لا لبْسَ فيها عندما قال:
«إذن، هو فاسد وديكتاتور.. بلا نقاش»..
فسألوه بدهشة: ولماذا هذا الحكم القاطع؟!..
فقال ببساطة منطقية صادمة: «مَنْ يحكم بلداً كل هذه السنوات ولا يستطيع أن يبني فيه مستشفىً يعالجه حين يمرض، فهو فاسد.. ومَنْ لا يأمن أن يعالجه طبيب من أبناء بلده، فهو ديكتاتور»..
في تلك الكلمات المقتضَبة، قال الألماني ما عجزت عنه آلاف الخُطب السياسية والتحليلات الإعلامية.. فالفساد ليس فقط في سرقة المال العام، بل في سرقة المستقبل، وفي اغتيال الكفاءات، في قتل الثقة بين الحاكم والمحكوم.. والديكتاتورية ليست في مجرد قمعٍ للمعارضين، بل أيضاً في الخوف الدائم من الناس، ومن الطبيب، ومن الحقيقة، ومن الوطن نفسه..
تأمَّلوا الصورة جيداً: رئيسٌ يهرب من طبيبه الوطني إلى مستشفى أجنبي، وشعبٌ يهرب من مرض وطنه إلى صمتٍ أعمى.. إن من المفارقات المؤلمة هنا أن المرض ليس في الجسد فحسب، بل في منظومةٍ كاملةٍ أُنهِكت من الاستبداد.. فلو أن هذا الحاكم قد استثمر ربع ما أنفقه على حراسته الشخصية في بناء نظامٍ صحيٍّ حقيقي، لما احتاج إلى السفر، ولربما أنه نام مطمئناً بين أبناء بلده لا بين جدران الغُربة..
إن ما قاله المريض الألماني يجب أن يُكتب على جدران كل مؤسسةٍ عامة في دولنا العربية: مَنْ لا يثق في وطنه لا يستحق أن يحكمه.. فـفخامة الرئيس قد يملك قصوراً، وجيشاً، وإعلاماً، لكنه يفتقد أهم ما يمكن أن يمتلكه أي إنسان: إنها الثقة.. الثقة التي لا تُشترى، ولا تُفرض بالقوة، بل تُبنى بالعدل، والكرامة، والإصلاح والالتزام بالمسئولية..
وفي الختام، كم من “فخامات” أخرى ما زالت تحكمنا بالمرض ذاته، وتظن أن الحدود يمكنها أن تقيها من عدوى الفساد الذي صنعته بأيديها؟..
وهل أن العلاج الحقيقي لا يوجد إلا في الخارج، أم أنه بحق، يوجد في كل ضميرٍ وطني قرر أن يشفى أخيراً ؟!
___
*مستشار وزارة الشباب والرياضة







اضف تعليقك على المقال