ارسال بالايميل :
8416
الكاتب : شعيب الأحمدي
عندما أتى إلى هنا كان يأمل معانقة الحرية، وإن كان في خيمة حزينة، الأهم يسودها الأمان النفسي، تحت وطأة أجنحة الدولة الأمنة، ينظر للأرصفة ويحلم بالتسكع ليلًا تحت إنارة الشوارع الخافتة، أو ضوء القمر في ليلة كئيبة، مع عشيقة مجنونة راقصة على أنغام الموسيقى الحزينة تحت مطر الصيف، يريد أن تتبلل الصحراء كي تغسل خطايا الحرب الهالكة، التي دمرت فيها أحلام الأطفال والشباب، الرجال والنساء.
كان يعلم أنها من أحلام اليقظة بعيدة التحقيق بل وتبدو مستحيلة في هذا الوضع العام من الحرب، إلا أنه وجد ملامح الدولة المنسية، في وجهها الرمادي المتجدد بربيع الحرية وعزة النفس البشرية الذي يحملها هؤلاء الناس الذين يتجمعون في المخيمات، بجلالة الروح الإنسانيّة بلا ماديات وضعية، عرفت أنه ملازم بدون مرتب يتنقل بنصف أجرة، بعد ركوب الباص في بن عبود.
في باصات النقل تكلل المعرفة اللحظية، تبدأ بالدهشة وبانشراح الصدر، حتى أنك تعتقد بأن الصداقة لها عمر طويل في الوجدان، في الوداع ترسم ضحكات جميلة لا قلق من غدر أمين أسرارك، لا ندم على ما بذلت لأجله شيء في الطريق، حتى أنها تصبح هي أعمق الصداقات المتوغلة في ذاكرة الإنسان.
كنا سبعة أشخاص، السائق وجواره جندي مسلح، أنا مقابل النافذة في كرسي الوسط، في المنتصف جندي جريح يحمل نفسه بعكاكيز الجمهورية المبتورة، ورجل آخر أخذت الحروب من عمره ثلاثين سنة في الجندية، وامرأة وزوجها في الخلف، جميعنا من مدن مختلفة، يجمعنا شتات المنازل المفجرة، في مُدنا المحتلة:
-غادرت منزلي في 2015 بعد تفجيرها في ريمة.
يتحدث الرجل في الجيش منذ منتصف التسعينات، ويعرف بنفسه بعد أن دارت الأنظار إليه:
-رتبتي ملازم أول منذ نهاية الحرب السادسة في صعدة ولم ترتفع.
حدق فيه جميع الرفاق، يرد السائق من المقدمة، بسؤال:
-هل أنت متقاعد؟
-لا يوجد تقاعد في الحرب.
هذه الحرب لا تسمح بالاستراحة، جميع من في الحافلة جنود بأشكال مختلفة، حتى المرأة جندية منزلها:
-بعد مطاردة زوجي في إب، حملت أولادي وانتقلت إلى تعز بصعوبة كبيرة من النقاط العسكرية، بعد شهر وصلت مأرب.
يدعو لها كثيرًا، يرفع قبعة التقدير لجدارتها، يعود شاردًا في نفسه، كان الملازم مهمومًا كيف يخبر السائق أنه لا يملك إلا نصف الأجرة، أعاده الجريح من جواره بسؤال آخر:
-هل تستلم مرتبك؟.
أخذ نفسًا عميقًا، كمن يمسك حُنجرته ايادي قاتلة :
-منذ ستة أشهر موقف.
لم يستفسر أكثر نادى السائق:
-على جنب يا باص.
توقف بعد جسر الشبواني، نزل:
-خذ أجرتي وأجرة الفندم.
وذهب نحو غايته، تاركًا خلفه دعوات الشفاء من الملازم، كم تبدو غريبة اليمن في الكرم المتجذر بهذه النفوس السخية، أين سينتهي هذا المشوار؟ نتحدث كأصدقاء طفولة مبنية على ثقة عمياء، نتبادل هموم وطن منسي في نفوس عبثية:
-جوار المحطة يا باص.
ينتهي المشوار هنا وينزل الملازم، كرجلٍ ركب غريبًا وأصبح عزيزًا وذهب رفيقًا مع الذاكرة.
مأرب – ١٣ /أبريل /٢٠٢٤م
اضف تعليقك على المقال