ارسال بالايميل :
5142
الكاتب : شعيب الأحمدي
هذه المرة الأولى أزورُ فيها مأرب؛ منذ أن دخلتها لم أفكر قَط أن أكتب عنها، بعد أن عُدت من شوارعها حيثُ كنت أتسكع تحت الإنارة الهادئة، دققت في تفاصيل الأرصفة الفارغة والشوارع المزدحمة بالسيارات، شعرت بحالة تراجيدية شاعرية بالدولة، وعودة السلامة البنائية لملامح المدينة الحديثة التي شوهتها الحرب.
رغم أن الحرب هي أسوأ ما يمكن أن يعيشها الإنسان، كونها أينما تمر تدمر، لا يوجد أي مدينة جزعت الحرب في شوارعها إلا ودمرتها، ولا شجرة خضراء إلا وأحرقتها، ولا بسمة جميلة إلا وأذبلتها، ولا عين تبكي فرحًا إلا وجعلتها تنزف دمًا، إلا أن خلال هذه السنوات التسع مرت الأولى العجاف وبدأت سنوات الخير، التي تنبت الشجر في وسط الصحراء وتعمر البيوت في جُّل الأماكن المهجورة.
وصلت محافظة مأرب -شمال شرق العاصمة المختطفة صنعاء- في السادس والعشرين من رمضان، على امتداد الصحراء التي مررت من خلالها إلى المدينة، شعرت في الوهلة الأولى بحالة ذُعر من الحرارة التي يذوب فيها الحجر الواقف في منتصف الطريق كوني معتاد على طقس تعز المعتدل صيفًا وشتاءً، دعوت أن تكون المدينة مختلفة، وبردًا وسلامًا علينا نحنُ العاشقين المتلهفين للأمن والدولة المتحضرة و السلام الجمهوري.
تشعر بروح الدولة والحضارة المدنيّة منذ بداية الأمر، عندما وصلت النقطة العسكرية الأولى لقوات الأمن الخاصة، شاهدت أفراد الأمن يرتدون بزاتهم العسكرية، تحدث سائق الحافلة: "أهلا وسهلا بكم في مأرب" نفخت عني غبار الطريق، ورعب الخوف من النقاط السابقة، وجهزت بطائق التعريف الشخصية كما طلبها السائق، ترحيب مقدر من الأفراد كتصرف رجال الدولة الحقيقة مع الشعب.
تلاحظ في قطار الزمن السريع مع الحرب، استقبلت مأرب الملايين من النازحين اليمنيين، الذين فقدوا منازلهم، جراء العدوان الحوثي عليهم، في بداية أنشأ المدينة 2017 تقريبًا، زفلتت الشوارع الرئيسية كونها تشكل التخطيط المدني لاستواء الأراضي بطريقة حديثة، بعد ذلك بدأ النازحون في بناء عشوائي كحلول مؤقتة، ثمة الارتقاء الحضاري بالتراكم والتطور حتى هذا العام السادس من البناء.
تعيش مأرب بحالة نموّ حضاري مستمرّ، هذا ما شاهدته في جُل الطرقات التي ركزت فيها على التأمل بالحضارة البنائية للمدينة الناشئة، التي جُّل ما قرأت لها في تاريخ وجدتها بادية عارية بالخيام بلا بناءً، لطالما كانت هذه المدينة محاربة حضاريًا منذ عقود من الزمن، رغم ملكيات مأرب بأصالة تاريخيّة وثقافية، وبالعديد من الآبار النفطية والغاز، كفيلة لتعمير دولة ليس إلاّ مدينة جغرافيّة ضيقة.
إلا أني أمنت الآن، بأن الحداثة الحضارية لن تكون إلا بوجود دولة عادلة، لن يكون هناك دولة إلا بوجود رجال نضالهم وولائهم للجمهوريّة، مخلصين بذواتهم لمبادئ الإنسانيّة، إيمانهم الخالص بالديمُقراطية، عدالتهم الجوهرية التعايش والسلام، نضالهم المستمر لأجل الوطن العريق، هذا ما تلخصه السلطات المحليّة التي تبني في هذا الوقت.
على امتداد العصور القديمة بأن مأرب تمثل أحد أهم الحضارات التاريخية التي تثبت جدارة الجغرافية في تأصيل اليمني الفلاّح ومعرفة كيانه، ونبذ خرافة التأطير بالأغلفة المتوردة، هنا تجد الإنسان بحُلة مختلفة، ما زال المأربي متأصلًا في القبيلة اليمنية الحميرية، متعززًا بهوية الجمهورية، مستبسلًا في الحرية الفطرية.
رغم أنها الآن في هذه المنعطفات السياسيّة والعسكرية والصراعات الفكريّة التي تمر بها البلاد بين أحفاد القردعي وأحفاد حميد الدين، جمعت بين التاريخ القديم والحداثة، بين الديمُقراطية والبدوية، حيثُ أصبحت تمثل نموذجًا مصغرًا للدولة الأمنة التي فقدناها منذ اعتصرت الحياة وأنقلب شيطان الملكيّة على ملائكة الجمهورية، أو بالأصح تمثل نموذجًا مكتملًا للدولة الحقيقية، كونها تعيش دورًا مؤسسيًا منظمًا عسكريًا وإنشائيًا وتحضرًا وحالة تراجيدية متميزة، مختلفًا عن الصور الذهنية، التي تبثها ألسنة الأفاعي الحوثية.
خلاصة الأمر في ظل أنك لم ترَ من ملامح الدولة المتحضرة أمنيًا وسياسيًا وبناءً انظر اتجاه مأرب، حيثُ يمكنك استدلال حضارتها المتقدمة في هذا الوقت العصيب، الذي يبرهن أن شرعية الحكم وعدالة الدولة لن تكون إلا بالجمهورية، التي يسعى لها اليمنيين، الذي ترفضة مليشيا الحوثي الملكيّة.
اضف تعليقك على المقال