كتابات

الفصل السادس من رواية #الخوثي – نقطة فوق الحاء – للاعلامي سام الغباري

 

تأليف : سام الغباري

– 6 –

*أتذكر جيدّا ظهيرة اليوم الذي دخلَت فيه مدينة ذمار -جنوب العاصمة صنعاء- لاستلام مهمتي كـ “مشرف”، وظيفة تجعلني الرجل الأول، شكل من أشكال القبضة الحديدية للجان الثورية الجديدة التي أعلن عنها في بيان 6 فبراير 2015م، وصلتُ منزل “أبو تراب”، اسمه الحقيقي: عبدالله الوشلي، كان عضوًا بمؤتمر الحوار الوطني الذي انتهى بإعلان مخرجات ومبادئ أساسية رفض الحوثيون التوقيع عليها، استقبلني عند عتبة منزله المرصوف بالحجارة السوداء، بيت طويل كمئذنة مُكعبة الشكل جُمعت على طوابقها ألوان من الحجارة الكبريتية والصمّاء وحجارة الحبش. ترجَّل المرافقون الشخصيون وشكًلوا طوقًا نصف دائري حولي، توقف بعض الصبية عن اللعب.حدّقوا في تلك الجلبة، عجوز بدينة تمشي الهوينا في المسار الضيق المؤدي إلى المنزل تتبرم من الزحام الذي سبَّبه وجودي، فيما يبدو أبو تراب فخورًا بي، يتعزز نفوذه كلما ارتبط برجل من صعدة ممن يحظون بثقة السيد.*

عيناه خضراوان وشعره أشقر، لحيته الذهبية تذهب به بعيدًا عن سحنة اليمنيين القمحية، لكنه على أية حال هاشمي، هو أقرب إلى السيد نسبًا، أما أنا فمن الذين لا يجمعهم شيء بأنصار الله سوى ماضٍ ألّف غربتي مع ابن بدر الدين في قرية واحدة، وحيّ واحد، وفناء واحد، وغرفة واحدة.

*دلفت المنزل، يسارًا، إلى غرفة الضيوف، سجاجيد حمراء، متكآت بنية اللون، مساند قرمزية، وستائر زرقاء داكنة، تناقضٌ صارخ أشعَرني بانقباضة شؤم، بكاء طفل، وهدير أصوات متعالية في الترحيب، سلام ومصافحات، أشخاص لاأعرفهم، بدأ أبو تراب في التعريف، هذا حسين عقبات، علي الوشلي، محمد السوسوة، يحيى الكبسي، حمود مطهر، قُبلات كثيرة، شعرتُ ببصاقهم لزجًا على خدي، بحرارة أجسادهم، وتملُّقهم. بعد دقائق دخل ضابط في زيّ شرطة النجدة الأزرق الداكن وعلى كتفية رتبة عقيد، رجل طويل، رائحته عفنة مثل خنزير خرج لتوِّه من حظيرة الروث، شاربه دقيق وعيناه غائرتان، لم أتذكر اسمه جيدًا، لكنه عرّف عن عمله قائلًا: أنه قائد قوات النجدة هنا. سألتُه عن المحافظ السابق الذي أعلن استقالته وأبرقها إلى الرئيس المحاصر عبدربه منصور هادي، أجاب مندهشًا: هل تعرفه؟ أومأتُ برأسي، وانتظرتُ. لم يتفوه بكلمة، سألتُه عن استعددات قوات النجدة في دعم وتأييد “المسيرة القرآنية”، لم أتذكر أيضًا أنه أجاب عن شيء مفيد، كان ثرثارًا، أمثاله لا يستطيعون كسب احترامي، وإنْ زاد تذلُّله.*

حضر الغداء؛ صنوف مشوية ومسلوقة من اللحم الطازج، صوان من الأرز، أكباد خراف مطبوخة بطريقة فريدة مُطعَّمة بحبات الذرة وعليها رشَّة شطة، آنية حجرية متوزعة على طول المائدة من الفحسة الملتهبة نارًا وفلفل حار، الكثير من أطعمة يمنية، الشفوت، بنت الصحن، العصيد تتوسط المأدبة مثل: قباب مجوفة إلى أسفل وعليها مرق لذيذ داكن وقليل من الطماطم المسحوق. الجميع يراقبني، ينافقونني، يتذللون، يترضَّون على “حسين الحوثي” بطريقة مقززة، وقد كانوا أول مَن أرسل القوافل الغذائية والرجال لمهاجمته في الكهف حتى قتلوه، لا بأس!، أنا اليوم رسول السيد عبدالملك، حبيب طفولتي، وموضع ثقته واختياره، أنا السلطة الجديدة، الرجل الأعلى من منصب المحافظ، كل شيء في قبضتي، ولم أتجاوز الثلاثين بعد.

*قضيتُ أيامًا في مبنى سكني الجديد، استراحة ضخمة مثل قصر، أربعة طوابق من حجر “توالب” شيّدها المحافظ الأسبق بجوار سكنه في عمق المدينة القديمة، ساحة مرصوفة بالحجارة الملونة، وعلى يسارها موقف سيارات بمظلات رملية اللون، في البهو ثلاث غرف على الجانبيْن الأيسر والأيمن، وسُلم طويل في المنتصف من الرخام الأبيض، يصل إلى الدور الأول ويرتبط بصالة اجتماعات، وديوان طويل لتناول القات، في منتصفه جلست كإلهٍ، كانت القرابين تتوالى، أقلام ذهبية، جنابي مصنوعة من قرن وحيد القرن يسوقها الباعة الحاذقين بنصف أسعارها ويتقدم تجار المدينة لشرائها، يضربون صدورهم ويحلفون بالطلاق ألا أدفع بنسًا واحدًا من جيبي، آه! تذكرتُ جيبي، مايزال متخمًا بالعملات الصعبة، سعودي، دولار، يروق لي أنْ أنزع عن كل ربطة وثاقها المطاطي وأتركها محررة مستقيمة، ظاهرة ومتدلية من الجيب، ذلك يُشعرني بالدفء.*

بدأ اليوم الاجتماعُ الأول لقيادات المحافظة، وصل المحافظ حمود عباد طويلًا أكثر من اللازم بصوت أجش، وحنجرة تبدو أنها ابتلعت بالأمس قواريرَ من الخمر البلدي ذي الرائحة النفاذة، عينان محمرتان، وابتسامة ماكرة، ورأس ضخم، بدأ مُسبحًا بحمدالله وثنائه، تحدث بلغة فصيحة وصوت جهوري عن أسباب اللقاء، مُحييًا المشرف الجديد الذي وصفه بـ”صديق الطفولة للسيد العلم”، كان يبرز وصفه ضاغطًا على أسنانه، ممعنًا النظر إليّ، كأنه يفتش صدري عن شيء نسيه ولم يجرِ على لسانه بالنميمة، توقفتُ عن رؤية الجالسين، لم أعد أشاهد أحدًا سواه. صوته، تلويحات كفيْه، ثنايا أصابعه، رأسه يدور بينما عيناه مصوبتان نحوي مثل عدسة قناص، فجأة حُشِرت وريقات القات المأكول في فمي وسدّت فتحة التنفس، سعلتُ بشدة، حاولتُ الشهيق، لم أستطع، هذا الماكر الملعون يكاد يقتلني، شعرتُ بإغماء، أتذكر طرْق الأيدي بلطف وعنف على ظهري، صدري، همهمات تحفزني على شرب ماء مُحلى، يبيسي، أيّ شيء يمكنه إنقاذي، هرعتُ إلى دورة مياه أسفل الدرج، وتقيَّأتُ كلَّ شيء، سقطتُ على أرضية الحمّام، ألهث من الإعياء، ألوِّح بكفي لمن تبعني أنْ يرحل ويتركني لأستردَّ بعضًا من عافيتي. قلتُ بصوت مختنق ضعيف: أنا بخير، بخير.

*عُدتُ بعد دقائق إلى الديوان الطويل، الجميع يتلطفون بي، وقد طفت الحُمرة وجهي، المحافظ لم يبرح مكانه، كأنه انتظر موتي، هذا الوغد العجوز لا يبدو أني أروق له، فأنا “قريب” أكثر من اللازم إلى السيد كما أشار ذات سياق بيننا، تبسمتُ محاولًا إخفاء آثار عبارته، لأردّ الضربة بأشد منها: وأنت لصٌّ أكثر من اللازم، قهقه متصنعًا الودَّ، احتضنني بذراعه حتى لم أعُد ظاهرًا بين ثنايا جسده الضخم، قائلًا: أنت كرجال بدر، وأردف مفسرًا: لا يضرُّهم ما صنعوا بعد يومهم ذاك.*

تلك الليلة، طلبتُ من الحراس نقل صورة كبيرة لحسين بدرالدين الحوثي إلى غرفتي، وضعوها على الجانب الأيمن من السرير المزخرف بحوافّ ذهبية، خلعتُ ملابسي ووقفتُ عاريًا في مواجهته، في جوف الليل، في نور المصباح في هجعة القصر كانت ظلال جسدي تتجسد كعملاق مُطلٍّ على صورته، كمظلة لها حوافّ جسد، تُلقي بامتدادها على النافذة الكبيرة المطلة على الجانب الخلفي من القصر، شبح ظِلي يصل إلى القمرية الملونة بقطع الزجاج، شيء ما دعاني إلى الاقتراب أكثر من الصورة، سألته بهمس: هل تراني؟ لم يُجِب، كلما اقتربتُ منه تقزَّم الظل، أعود إلى الخلف خطوتيْن، فيكبر الظل، تبسّمتُ، نحن وحيدان أيها السيد، يا قرين القرآن، ياوريث النبوة. راق لي أنْ أجمع نخام حنجرتي وأقذفه على وجهه، تبللَت الصورة وسال بعض منه كدمع من عينيه، وقفتُ أتأمله، حدّقت في بؤبؤ عينه اليمنى، ما الذي يشاهده الآن؟ أين هو؟ في الجحيم بجوار جدّه أبي لهب؟، ومسحتُ جريان البصاق على وجهه، تذوقتُه، ثم بصقتُ مرة أخرى بكراهية أشد، فتحتُ دولابي، أخرجت قنينة خمر فاخر نوع فودكا روسية، لا لونَ لها مثل الماء غطاؤها أزرق رفيع، قلّبتُها في كفي، وابتسمتُ مرحًا، جلستُ على حافة السرير أداعب خصيتي، أفكر فيما سيحدث غدًا، وكلما فكرتُ أكثر جرعت كأسًا من الفودكا، نهضتُ متثاقلًا، أفرغتُ ما في مثانتي على الصورة، يمينًا ويسارًا، طولًا وعرضًا، تبلل السيد، أعدتُ رأسي إلى الخلف، قطبتُ حاجبَيّ، أفكر مرة أخرى، هل هذه جريمة؟ التبول على صورة رجل ميت ومقدَّس!، ثم نفضتُ عن رأسي أسئلتها. تردّدت أصداء خطى في الممر. برز ظلُّ رجل أسفل باب الغرفة. جلستُ القرفضاء أحدق في الرجل الساكن أمامي، أصفعه، هيا قل لي ما الذي ستفعله؟ لقد قتلتَ شعبًا بأكمله لتحقيق وهْمِ تفوُّقك العِرقي؟، ماهذه التفاهة يا شاهين، هل تتحدث إلى صورة وتنتقم من ميت؟ صوت طرقات خفيفة على باب غرفتي، تكرر الطرق، جرعت ما تبقى في قنينة الويسكي، كان الكأس ثقيلًا في أصابعي، انسحبتُ إلى السرير مثل كلب، الطرقات تدنو وتغيب، وجهٌ ما يحدِّثني، هل أحلم؟ عبدالملك الحوثي صبيًا في شعاب القرية، هناك حيث كانت شجرة كافور كبيرة ووحيدة متأملًا كفيْه، سألته: لمَ لا تظهر شقوق على كفيْك مثل كفي؟، تبسَّم الصبي قائلًا: عليك أنْ تنظفهما بليفة خشنة ثم تضع قليلًا من الشحم أو سمن المطبخ واتركهما حتى يجفّا ولا تلعب في التراب فليتصق بهما ويتشقق جلدك أكثر ويُدمى، كانت هذه أول معلومة طبية أسمعها، سألتُه مرة أخرى: هل تأكل التراب؟ حدَّق بعينيْه وضحك في دلال، ثم صفعني بقوة وفرَّ هاربًا، جمدتني المفاجأة، وعلى بُعد أمتار توقف، مشيرًا بكفيْه صائحًا: الحقني إن استطعتَ! ثم هرب كغزال، ولحقتُه كسلحفاة. دار حول القاع الصغير، يتفزز بالحيوية في حقول القات والعشب ويختفي وسط سيقان الذرة الكثة، ثم يظهر من الجانب الآخر، كنتُ ألهث وراءه وأنفاسي تعلو وتهبط، يعود، يقترب، يدور حول الشجرة، صائحًا: هيا يا قبيلي، نَلْ مني!، وتباطأ أو أنه تعمَّد أنْ يتباطأ، أمسكتُ به، دُرنا حول بعضنا، قبض على معصمي الأيمن ثم الأيسر، ثبَّتهما إلى جذع الشجرة، ودنا منيّ!، أغمض جفنيْه، تسمّرت أعضائي، تصلب كلُّ شيء فيّ، قاومتُ تكبيله وبصقتُ في الهواء، مسحتُ شفتي بباطن كفّي، فتراجع محتدًا بضع خطوات إلى الوراء، كاد يتعثر، أمسكتُ معصمه سريعًا فأنساب جسده إلى صدري، كأنه تآوه، لم أتذكر جيدًا إلا أني دفعتُه بعيدًا وصحتُ بحنق واضح: ما الذي تفعله يا وسخ؟ لم يُحِر جوابًا، صمت. دفعتُه أمامي مرة أخرى، “هيا قبل أنْ يلحظ أحدٌ غيابنا”. استسلم بخطوات متثاقلة وطفقنا عائدين، لم نتحدث عن شيء، أطرق كلانا إلى الأرض، كان يجرُّ قدمه وراءه، حذاؤه الأبيض نوع أديداس ذو الأصابع السوداء الصغيرة، أما أنا فحافي القدمين، أشعر بعذوبة الأرض حين أخلع حذائي وأعدو، بلمسة الطين على باطن قدمي، برؤية الدم في رجلي ينبجس من مسمار صدئ كان مزروعًا في قلب الحقل، بذلك الألم الذي كان يثير عجب طبيب القرية ذي الوجه البريء، حين أبكي، وأسير أعرجَ بين أقراني، ثم أعود إليه لينزع قطعة زجاج استقرت في هذه القدم البلاتينية، هكذا وصفها ساخرًا.

*وجهه نحيل، شارب نميم وأنف مدبب وعلى جانبي رأسه صلع منحسر، وفي ثنايا فمه يبرز صفان ناصعان من الأسنان، كان يعبث بشعر رأسي المنسدل إلى أسفل العنق، يُعلق ضاحكًا: أعطني قليلًا من شعرك وسأعالجك مجانًا مدى الحياة، فيتدخل عمّي معترضًا: قل ما شاء الله يا دكتور!، يلوّح بكفيه ويقهقه، ثم يمضي.*

توقف “عبدالملك” في منتصف الطريق، طلب أنْ أسامحه. سَكتُّ. رجاني أنْ لا أخبر أحدًا، لم أُجِب، تضرَّع، غمغمتُ متمتمًا بكلمات غير مفهومة، لم يتركني حتى وعدتُه بالصمت، وافترقنا عند مجرى السيل الصغير الذي يسري بين حقلينا في هدوء..

*لم أنم تلك الليلة.*

..
يُتبع ..

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى