بقلم / نبيل حسن الفقيه
كنت قد تناولت في مقال سابق بعنوان “ إقتصاد الحرب في اليمن ” جُملة من مفردات اقتصاد الحرب الذي تشكل في اليمن مع بداية الحرب عام 2015، وتطرقت الى سلسلة من الإجراءات الاقتصادية المختلفة التي انتهجتها جماعة الحوثي لتعزيز اقتصادها، و أجد ان من المناسب ان نُعيد طرح هذا الموضوع و نُسلط الضوء عليه من زوايا مختلفة، خاصة وان جماعة الحوثي تعتمد على اقتصاد الحرب او ما يعرف باقتصاد الظل لتعزيز سيطرتها على شمال اليمن.
حيث وضعت المليشيات الحوثية مسار محدد ربط قادة الجماعة الحوثية الرئيسيين ببعضهم البعض من خلال وسطاء ثانويين وجدوا المرتع الواسع لممارسة انشطتهم الاقتصادية بتكتم عالي بعيداً عن النظام والقانون، فكيف يمكن ان يُنظر للوضع الاقتصادي ولبيئة الاعمال في ظل هذا الوضع؟؟
وللإجابة على هذا السؤال سيتم تناول مجموعة من العناوين الرئيسية التي يمكن ان تُسلط الضوء على جُملة الممارسات الحوثية لنستشف من خلال تلك العناوين مقدار الضرر الذي سببته الجائحة الحوثية على الاقتصاد اليمني.
المساعدات الإنسانية:
استخدم الحوثيين المساعدات الإنسانية استخداماً ذكياً لتعزيز مكانتهم في المجتمع، وتوظيف منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال الإنساني التوظيف المقيت وبشكل صارخ لم تشهد له اليمن مثيل.
مارس الحوثيين الضغوط على المنظمات الإنسانية وفقاً للتقارير الصادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) وعمدت جماعة الحوثي على نهب المساعدات الإنسانية وتسخير المساعدات لكسب الولاءات وتوظيف العوز المعيشي لجذب المقاتلين لصفوفها، وعمد الحوثيين على اختيار المستفيدين من المساعدات الإنسانية، اذ يتم توجيه المساعدات وفقاً لما يحدد من قبل الحوثيين مع عدم الانحياز للمحتاجين على أساس الاحتياج وانما على أساس الولاء والطاعة، إضافة الى انه يتم سرقة المواد الغذائية الأساسية من قِبل قادة الجماعة الحوثية، ويتم إعادة بيعها للتجار الذين بدورهم يقومون ببيعها بأسعار مرتفعة للمواطنين بدلاً من ذهابها للمستحقين.
ليس بخافي على احد تقارير الأمم المتحدة التي اشارت الى جملة الممارسات الحوثية تجاه المنظمات الإنسانية، اذ لا يسمح للوكالات الدولية العاملة في المجال الإنساني بالعمل باستقلالية، حيث اتهم التقرير الصادر من مكتب الأمم المتحدة الحوثيين بعدم احترام استقلال المنظمات الإنسانية، بالإضافة الى قيام الحوثيين بتهديد العاملين في المنظمات الإنسانية، واعتقال وتخويف العاملين في المجال الإنساني في مختلف المناطق، والاستيلاء على الممتلكات الشخصية للعاملين في المجال الإنساني والممتلكات التابعة للمنظمات الإنسانية، ووضع العديد من العوائق الإدارية من خلال هيئة تم انشائها من قبل المليشيات الحوثية تتولى إدارة تنسيق الشؤون الإنسانية، والتي اشترطت حصولهم على نسبة من ميزانية كل مشروع إنساني تتم الموافقة عليه من قبل الحوثيين ، لتغدوا هذه الهيئة الواجهة الرسمية التي تسيطر من خلالها جماعة الحوثي على المساعدات الإنسانية وتوجهها للأغراض العسكرية، وبعد ان ارتفعت حدة امتعاض المنظمات الإنسانية من ممارسات هذه الهيئة تم استبدالها بالمجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، ونتيجة لكل تلك الممارسات فقد قلصت العديد من الدول والمنظمات مساعداتها لليمن حيث أشار المانحين الى انه لم يعد بإمكانهم ضمان وصول الغذاء لملايين الأشخاص ممن يحتاجون إليه، اذ ان جل تلك المساعدات تذهب لغير مستحقيها.
تجفيف القنوات الاقتصادية:
تضع جماعة الحوثي جملة من العوائق امام رجال الاعمال والبيوت التجارية فتعمد الى توظيف الأنظمة الضريبية والجمركية لصالح توجهاتها، مع اضعاف الضوابط المالية للدولة والمضي في تجفيف القنوات الاقتصادية الفاعلة، ومن ذلك شل حركة رجال الاعمال والمستثمرين وخنق قنوات تعاملاتهم المالية الداخلية والخارجية مما يولد حالة من الضغط المالي فترتفع الديون وتتراكم المديونيات وتتقلص الاعمال، وتضمحل الحصص السوقية، فيرتفع مستوى امتعاض الشركات الخارجية المصدرة التي يمثلها رجال الاعمال اليمنيين… وهنا يخرج الحوثيين من جحورهم للاستحواذ على الشركات مستغلين الأنظمة والقوانين التي وضعوها لتلائم مقاساتهم فتزال عوائق التأسيس والترخيص وحماية الملكية الفكرية والوكالات التجارية ويمارس التستر التجاري، إضافة الى منح الحوثيين لاتباعهم امتيازات خاصة وتسهيلات عالية فيتم القضاء على طبقة رجال الاعمال والبيوت التجارية العتيقة، ويحل بدلاً عنها مجموعة جديده من التجار الانتهازيين الذين ظهروا في غفلة من الزمن على السطح ليستحوذوا على الاعمال التجارية، فيسيطر الحوثي من خلال هؤلاء على الحراك الاقتصادي بشكل مطلق.
نهب مدخرات المواطنين:
سعى الحوثي الى السيطرة على الكتل البشرية من خلال الضغط على الموارد الاقتصادية المحدودة وتشديد إجراءات تدفق الأموال بين السكان، حيث أجبرت مليشيا الحوثي كافة البنوك والمصارف والتجار على عدم تداول العملة التي طبعها البنك المركزي المعترف به دوليا، وعملت على الضغط على المواطنين باستبدال تلك النقود بما سمي بالريال الالكتروني او بنقود من الطبعة القديمة وبفارق كبير.
بهذه الخطوة تم نهب مدخرات المواطنين وتم الاستيلاء على أموال التجار، وتسبب هذا القرار بشلل تام على الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة الانقلاب مع اختفاء السيولة النقدية من الأسواق.
ونتيجة لعدم امتلاك شركات الصرافة للسيولة الكافية من النقد القديم والتي أصبحت متهالكة، وعجز الصرافين عن تسليم الحوالات المالية بعد منع تداول الطبعة الجديدة، فقد تم رفع عمولات التحويل النقدية التي تتم من مناطق الشرعية إلى مناطق الانقلابيين بصنعاء، وبشكل تجاوز ما نسبته الــ 15 ٪ من قيمة الحوالات، وتسبب ذلك في ظهور سوق سوداء جديدة، يتزعمها قادة حوثيون يقومون بشراء الطبعات النقدية الجديدة بسعر أقل من العملات القديمة المسموح بتداولها، ثم يقومون بتهريبها إلى المناطق الخاضعة للشرعية.
كما ان القرار قد اثر بشكل مباشر على موظفي الدولة في المناطق الخاضعة للحوثيين، وخصوصا الذين كانوا يتقاضون مرتباتهم من الحكومة الشرعية، حيث حرم اكثر من 23 ألف موظف في وزارة الصحة من مرتباتهم، و11 ألف من أساتذة وموظفي الجامعات، بالإضافة الى أكثر من 33 ألف موظف في محافظة الحديدة الساحلية وكذا حرمان ما يزيد عن 82 ألف متقاعد مقيمين في مناطق المليشيات الحوثية من معاشاتهم، حيث أعلنت شركات الصرافة والبنوك المحلية عدم قدرتها على دفع المرتبات بالعملة النقدية القديمة كونها لا تمتلك السيولة الكافية من النقد القديم، ففاقم هذا القرار من معاناة الناس، وتسبب في انهيار اقتصادي، حيث تفاوتت أسعار صرف الريال أمام الدولار الأمريكي في مناطق الانقلابيين ومناطق الشرعية، مما أدى الي ارتفاع كبير في أسعار السلع الغذائية والدواء.
موارد ميناء الحديدة:
وفقاً لاتفاق السويد الخاص بالحديدة وما نتج عنه من تفاهمت واتفاقيات فيما بين المبعوث والمليشيات الحوثية من الجهة والحكومة الشرعية فقد اتفق على وضع اطار للتعامل مع الموارد المالية الناتجة عن الحراك التجاري في ميناء الحديدة وتوظيف المتحصلات الجمركية والضريبية لصالح دفع مرتبات القطاع العام، وكان هذا الاتفاق ناتج عن الضغط الذي نتج عن تنفيذ قرار الحكومة الشرعية رقم (49) والذي مثل ضربة موجعة لجماعة الحوثي، حيث هدف القرار إلى تحصيل الرسوم الضريبية والجمركية والعوائد القانونية الأخرى وتخصيصها لصرف مرتبات الموظفين في المناطق الخاضعة للميليشيات الحوثية، بالإضافة الى تجفيف الموارد المالية لجماعة الحوثي المتحصلة من ميناء الحديدة، إذ يعد ميناء الحديدة الشريان الاقتصادي الأساسي للجماعة، ووضع قرار الحكومة الشرعية رقم (75) الضوابط والإجراءات الملزم تطبيقها من قبل التجار أصحاب السفن لضمان توريد المستحقات القانونية من الرسوم الضريبية والجمركية والعوائد القانونية الأخرى لفرع البنك المركزي اليمني في الحديدة، فكان التفاف الحوثي على هذا القرار بمساعدة المبعوث الاممي وتواطؤا من قبل الحكومة الشرعية، حيث تم في المراحل الأولى لتنفيذ القرار الضغط من قبل المبعوث بتمييع بعض الاشتراطات التي وضعها القرار الحكومي على دخول السفن، مروراً بإصدار رئيس الحكومة الشرعية جملة من أوامر ادخال سفن النفط الحوثية دون التقيد بالضوابط والإجراءات المعتمد في القرار الحكومي سالف الذكر، وصولا الي سحب الحوثي للمبالغ المجمعة في فرع البنك المركزي اليمني في الحديدة وبدعم وتواطؤ من المبعوث الاممي ، حيث استولت جماعة الحوثي على ما تم جمعه من موارد والمقدرة بأكثر من (34) مليار ريال، وبذا يمكن القول ان الشريان الاقتصادي لجماعة الحوثي ما زال ينبض وسيستمر في تزويد الة الحرب الحوثية بالموارد الى ان يأذن الله بزوالهم .
السوق السوداء…الاقتصادية موازية:
أسس المليشيات الحوثية كيانات اقتصادية موازية لتمويل الحرب، وعمدوا الى خلق السوق السوداء للمشتقات النفطية بعد اقرارهم تعويم أسعار المشتقات النفطية، وفتح المجال للقطاع الخاص باستيراد المشتقات النفطية ودفعهم للشركات الجديدة التي أنشأتها جماعة الحوثي لاستيراد النفط وبيعه إلى شركة النفط الحكومية وتوزيعها للسوق، وبالتالي جني أرباح طائلة يعود ريعها لاقتصاد الحرب، حيث يعد بيع الوقود في السوق السوداء أحد أهم المصادر الرئيسية لإيرادات الحوثيين.
الإتاوات والتبرعات الاجبارية:
استحدثت مليشيات الحوثي منذ سيطرتهم على العاصمة صنعاء وبعض المدن نقاط التفتيش وزعت على مدخل عواصم المحافظات في شمال البلاد، حيث تهتم تلك النقاط بتحصيل رسوم دخول وخروج البضائع، وقاطرات المشتقات النفطية والغاز المنزلي تحت مسمى جمارك أو ضرائب، وشرعن الحوثي هذا الاجراء من خلال اصدار قرارات غير قانونية من قبل مصلحتي الجمارك والضرائب مستغل واجهة مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها.
لقد وظف الحوثيين حملهم للسلاح في النهب والسلب وفرض الاتاوات، ومصادرة الأراضي والعقارات، وسرقة المساعدات، والتفنن في خلق الفعاليات لجمع التبرعات والاستيلاء على المال العام، وممارسة الابتزاز على المحلات التجارية ورجال الأعمال من خلال فرض الاتاوات والتبرعات الاجبارية في المناسبات الدينية أو السياسية كذكرى المولد النبوي وعيد الغدير، ويوم الشهد، والهدف هو احكام السيطرة الاقتصادية على كل مقدرات الامة وصولاً للسيطرة على الكتلة البشرية والتي تُمثل المخزون البشري الذي يعتمد عليه الحوثي في مواصلة القتال.
الحارس القضائي:
شرعت المليشيات الحوثية في استخدام الية جديده لنهب ومصادرة الأموال والممتلكات الخاصة من خلال ما سمي بالحارس القضائي، حيث يقوم الحارس القضائي الحوثي بأكبر عملية ابتزاز ونهب، الامر الذي أدى الى توقف معظم الاعمال والى اعلان افلاس عشرات الشركات والمؤسسات الخاصة إفلاسها التام، حيث يعمد الحوثي الى اصدار قرارات من محكمة أمن الدولة التابعة له ويتم بموجب تلك القرارات حجز أموال الشركات المنقولة وغير المنقولة والسطو على إيرادات الشركات ومصادرة أرصدتها لدى المصارف والبنوك، ووضع محاسبين من قبل الجماعة يقومون بنهب الإيرادات يومياً من المنشآت التي تم الاستيلاء عليها، وهذا ما جعل القطاع الخاص يلفظ أنفاسه الأخيرة…
لم يقتصر الامر على البيوت التجارية ورجال الاعمال والمصانع والبنوك بل امتدت سطوة الحارس القضائي الحوثي على ممتلكات الافراد للسيطرة على ممتلكات المعارضين لهم، حيث تتخذ جماعة الحوثي الحارس القضائي كغطاء لوضع اليد على الأملاك الخاصة للأفراد ممن تتهمهم بالخيانة في سابقة لم يعهدها اليمنيين منذ قيام الجمهورية.
قانون الخُمس:
لم يكتفي الحوثي بنهب موارد المؤسسات، ومصادرة الحقوق، ونهب ومصادرة اموال وممتلكات القطاع الخاص، و فرض الاتاوات، والاستيلاء على مرتبات الموظفين بحجة المجهود الحربي، بل سعى لفرض قانون ينهب بموجبه ما تبقى من الثروات الطبيعية في باطن الأرض، من خلال إصداره اللائحة التنفيذية لقانون الركاز حيث منح مجموعته العنصرية بموجب هذه اللائحة 20٪ من مختلف الموارد، في سابقة مذهبية وعرقية وضعت من يطلق عليهم “بني هاشم” في مصاف تمييز طبقي وعرقي ومذهبي مقيت، حيث عمد الحوثي من خلال “الخُمس” إلى إضفاء شرعية دينية وقانونية على الجبايات التي تفرض على اليمنيين، لتوفير موارد مالية لتمويل الحرب التي يخوضها، والى ترسيخ مفهوم الولاية الدينية والسياسية للجماعة الحوثية في اليمن.
اخيراً:
يجب التأكيد على ان الاجراءات الاقتصادية التي اتخذتها جماعة الحوثيين لتعويض نقص الموارد وتغطية الجبهات العسكرية بعد استيلاء على السلطة في ربيع العام 2014م قد وضعت اليمنيين على اعلى سلم الفقر في العالم، خاصة بعد ان استنزاف الاحتياطي النقدي، وتوقفت الحكومة عن دفع مرتبات موظفي الدولة بعد استيلاء الحوثيين على الموارد المالية، مروراً باستحداث منافذ جمركية جديدة ونقاط تفتيش على الطرق لفرض الاتاوات، وفرض التبرعات الشعبية للمجهود الحربي وفتح السوق السوداء للمشتقات النفطية، وصولًا الى إعادة النظر في القوانين الضريبية مما أدى الى عجز لدى الحكومة الشرعية عن الوفاء بالحد الأدنى من المتطلبات الاقتصادية ، خاصة بعد ان توقف تصدير النفط والغاز، وتوقف المنح والمساعدات الدولية المباشرة للحكومة التي كان يستند عليها الاقتصاد في اليمن منذ عقود.
وكمحصلة نهائية فان تجريف الاقتصاد الوطني الذي تمارسه المليشيات الحوثية سيؤدي الى نتائج وخيمه ليس بمقدور اليمن تجاوزها على المدي المنظور، اذ ان بيئة الاعمال قد دمرت بشكل تام وقضت إجراءات الحوثي على كل امل لاستقطاب الشركات الاستثمارية، وفرضت سياسة المليشيات على الراس المال الوطني الهجرة الاجبارية مما فاقم من الأوضاع الاقتصادية في اليمن، وستزداد الكارثة في اليمن عندما يجد اليمن ان من كانوا يمدون لليمنيين يد العون لم يعد باستطاعتهم تقديم أي عون نتيجة تفاقم المشاكل والأزمات الاقتصادية عالمياً.
لقد نجحت المليشيات الحوثية في إنشاء اقتصاد حرب موازي كبديل عن الاقتصاد الرسمي، وتمكنوا من الاستمرار في إدارة الجبهات العسكرية، على الرغم من محاولة الحكومة الشرعية كبح جماح الاقتصاد الموازي، الا ان ضعف أداء الحكومة وانصياعها دون إدراك لإملاءات المبعوث الأمم قد أداء الى استمرار الحرب، وبات من الواضح ان إيقاف الحرب مناط بقدرة المجتمع الدولي على تجفيف قنوات الارتزاق التي فتحتها جماعة الحوثي والكيانات الموازية التي تسير في فلكها في الحكومة الشرعية.
والله الموفق،،،
نبيل حسن الفقيه
9 يونيو 2020م
اضف تعليقك على المقال