الكاتب : أشرف محمدين
في عالم يمتلئ بالصراعات والضجيج، ويزداد فيه الناس قسوة وانشغالًا بأنفسهم، يظل فعل صغير قادرًا على إحياء الروح وإعادة بناء إنسان محطم: جبر الخواطر. إنها عبادة خفية لا يلتفت إليها الكثيرون، لكنها في ميزان الإنسانية أعظم بكثير من عبادات ظاهرة، لأنها تمس جوهر العلاقة بين البشر. فأن تجبر خاطرًا يعني أن تنحاز للرحمة في وقت القسوة، وأن تمنح الآخر شعورًا بأنه مرئي ومسموع في زمن يتسابق فيه الجميع للحديث ولا أحد يتوقف ليستمع.
جبر الخواطر ليس كلمة عابرة فحسب، بل هو موقف إنساني شامل، قد يكون ابتسامة في وجه عابر مجهول، أو لمسة حنان على كتف صديق يوشك أن ينهار، أو حتى صمتًا يترك للآخر مساحة كي يبوح بما لا يستطيع حمله وحده. هو تذكير عملي بأننا جميعًا ضعفاء، وأننا مهما حاولنا التظاهر بالقوة، يظل في داخلنا طفل صغير يحتاج من يربت على قلبه. ولعل أعظم ما في هذه العبادة أنها لا تحتاج إلى مال أو جهد أو منصب، بل إلى قلب صادق يعرف قيمة أن يُنقَذ إنسان من هاوية حزنه بكلمة واحدة.
المؤسف أن مجتمعاتنا اعتادت النظر إلى القوة على أنها صلابة وقسوة، حتى صار من يُحسن إلى غيره يُوصَف بالسذاجة أو الضعف. لكن الحقيقة أن أعمق معاني القوة تكمن في القدرة على منح الآخرين مساحة أمان. لا أحد يخسر حين يجبر خاطرًا، بل العكس تمامًا؛ لأن هذا الفعل يعود على صاحبه بطمأنينة عجيبة، وكأن الله يضع في قلبه نورًا يضيء له الطريق. وليس من المبالغة أن نقول إن تاريخنا الإنساني كله كان سيتغير لو أن كل شخص جبر خاطر من بجواره بدلًا من أن يزيد من وجعه.
جبر الخواطر ليس رفاهية اجتماعية ولا مجرد خُلُق جميل، بل هو ضرورة لبقاء إنسانيتنا حية. الكلمات القاسية قد تهدم بيوتًا وتكسر أرواحًا، لكن الكلمة الطيبة قادرة على أن تبني وتُصلح وتُعيد الحياة لما مات في داخل إنسان. إننا حين نتجاهل جروح الآخرين، نشارك من حيث لا ندري في تعميقها، وحين نمد يدنا بالكلمة الطيبة نُعيد لهذا العالم بعضًا من توازنه المفقود.
قد نتصور أن العبادات محصورة في الصلاة والصيام لكن الحقيقة أن جبر الخواطر هو الامتحان اليومي الحقيقي لأرواحنا. كم من صلاة لم تترك أثرًا، وكم من كلمة صادقة أنقذت روحًا كانت على حافة الانكسار. لذلك كان جبر الخواطر عند أهل القلوب عبادة عظيمة، لأنها تعكس أعظم ما يمكن أن يقدمه الإنسان للإنسان: أن يكون سببًا في أن يبتسم بعد حزن، أو ينهض بعد سقوط، أو يؤمن مجددًا في وقت فقد فيه إيمانه بالناس.
سيظل جبر الخواطر أعظم شكل من أشكال المقاومة الإنسانية ضد قسوة العالم. فليكن شعارنا أن لا نخرج من مجلس إلا وقد تركنا فيه أثرًا طيبًا، ولا نمر على إنسان إلا وقد خففنا من عبئه ولو بكلمة. ولنتذكر دائمًا أن الله عند المنكسرة قلوبهم، وأن جبر الخواطر لا يُنسى، بل يظل شاهدًا خالدًا علي إنسانية لم تمت بعد
و في النهاية
جبر الخواطر ليس مجرد خُلق نمارسه في لحظة عابرة، بل هو فلسفة حياة كاملة، امتحان يومي يحدد إن كنا ما زلنا نملك قلوبًا تنبض بالرحمة أم أننا فقدنا إنسانيتنا وسط صخب الماديات والأنانية. حين تجبر خاطر إنسان، فأنت لا تمنحه مجرد كلمة، بل تمنحه معنى أن الحياة لا تزال رحيمة، وأنه ليس وحيدًا في معركته مع الألم. قد لا تتذكر أنت فعلتك بعد دقائق، لكن الطرف الآخر ربما يظل يحملها في قلبه عمرًا كاملًا، يستعيدها كلما ضاق صدره، وكأنها حبل نجاة أُلقي له في لحظة غرق.
الأجمل في جبر الخواطر أنه لا يحتاج إلى موارد ضخمة ولا إلى خطط طويلة، فقط يحتاج إلى قلب يشعر. الكلمة الطيبة لا تُكلّف شيئًا لكنها تعني كل شيء، والابتسامة قد تكون أقوى من ألف علاج، والاحتضان الصادق قد يُعيد الروح لمن ظن أن الدنيا أدارته ظهرها. وفي زمن صار فيه الكثيرون بارعين في كسر القلوب، يصبح من يجبر الخواطر ندرة، وكأنه جوهرة ثمينة تحفظ ما تبقى من نقاء هذا العالم.
لذلك، فلنجعل من جبر الخواطر مبدأً راسخًا لا يتبدل مع تبدل الأيام. لنجعل حضورنا في حياة الآخرين بركة، وكلماتنا جسورًا لا هدمًا، وأفعالنا دواءً لا جرحًا. فربما دعوة صادقة من قلب مكسور جبرناه، تفتح لنا أبواب السماء حين تغلق في وجوهنا. وربما كلمة ناعمة قيلت في وقتها، ترفعنا عند الله درجات لا يبلغها صيام ولا قيام.
الحياة أقصر من أن نقضيها في كسر بعضنا البعض. فلتكن رسالتنا أن نترك خلفنا أثرًا طيبًا أينما مررنا، وأن نعيد للقلوب المرهَقة بعضًا من يقينها أن الرحمة ما زالت موجودة. عندها فقط سنفهم أن جبر الخواطر ليس مجرد فضيلة، بل هو أعظم العبادات الخفية، ووصية غير مكتوبة تقول: “كن للآخرين كما تحب أن يكونوا لك، فالحياة تدور، وما تكسره اليوم قد تحتاج غدا من يجبره فيك
اضف تعليقك على المقال