الكاتب : أشرف محمدين
في زمن أصبحت فيه الإيجابية شعارًا عالميًا، وكلمة السر في مواجهة ضغوط الحياة، يتوقع الجميع أن نكون “مبتهجين” و”مطمئنين” طوال الوقت. صرنا نرى الابتسامة وكأنها واجب اجتماعي، ونعتبر التفاؤل مهارة لا غنى عنها للنجاة. في هذا السياق، يختار الكثيرون أن يكونوا مصدرًا للأمل لمن حولهم، حتى وإن كانوا هم في أمسّ الحاجة إلى الأمل. يبتسمون رغم التعب، يرفعون الآخرين رغم انكسارهم، ويُصدّرون التفاؤل وكأنهم لا يعرفون للوجع طريقًا
لكن المأساة أن هذه القدرة على إخفاء الألم، كثيرًا ما تُفسَّر خطأً. فيُعتقد أن أصحابها لا يتألمون أصلًا، أو أن لديهم من القوة ما يجعلهم في غنى عن أي دعم أو مساندة. وهنا تبدأ القسوة في التضاعف، والأنانية في التمدد، ليجد الصامدون أنفسهم محاصرين بين توقعات الآخرين وحاجتهم الإنسانية للبوح والاحتواء
لعنة الإيجابية المفرطة
من السهل أن يُظهر الإنسان حزنه أو ضعفه، لكن الصعب هو أن يخفي وجعه ليمنح الآخرين طمأنينة. هؤلاء الذين يملكون قلوبًا كبيرة، يبتلعون مرارتهم في صمت حتى لا يثقلوا على من يحبون. يضعون آلامهم على الرف، ويقدمون ابتساماتهم كهدية مجانية للآخرين
لكن هذا السلوك النبيل يتحول أحيانًا إلى لعنة، حين يتعامل الآخرون معه كأمر بديهي. فيُساء فهمهم: “طالما يضحك إذًا لا يتألم”، “طالما يصدر طاقة إيجابية إذًا لا يحتاج الدعم”. وهكذا تتحول قوتهم إلى شماعة يُعلق عليها الآخرون المزيد من الطلبات، بلا أي محاولة لفهم ما يخفونه خلف الواجهة المشرقة
الإيجابية المفرطة قد تجعل الإنسان يبدو وكأنه لا يحتاج إلى شيء، بينما داخله ينزف. إنها أشبه بطلاء لامع يخفي جدارًا مليئًا بالشروخ. من يراها يظنها مثالية، لكن من يقترب قليلًا يدرك هشاشتها
الصمت أثقل من الكلام
هناك ألم لا يُقال، ووجع لا يُشرح، وصمت أثقل من آلاف الكلمات. الإنسان الذي لا يشكو، ليس بالضرورة سعيدًا. أحيانًا يكون أكثر الناس صمتًا، هو أكثرهم صراعًا مع نفسه
ومع ذلك، اعتدنا أن نأخذ ما يظهر أمامنا على محمل اليقين. لم نسأل أنفسنا: هل هذه الضحكة صادقة فعلًا؟ هل هذه الطاقة الإيجابية انعكاس حقيقي، أم جدار يحجب الدموع؟ كم من شخص بدا قويًا أمامنا، ثم انهار فجأة وكأنه حمل العالم بأسره على كتفيه
الصمت لا يعني السلام، بل قد يكون استغاثة خفية لا يجيد صاحبها صياغتها بالكلمات. وكثيرون يسقطون لا لأنهم ضعفاء، بل لأنهم تعبوا من التظاهر بالقوة
الوجه الآخر للإيجابية
الإيجابية الحقيقية ليست في إنكار الألم، بل في القدرة على التعامل معه دون أن يُفسد حياة الآخرين. لكنها تصبح خطيرة حين تُستخدم كقناع يضلل من حولنا، فيظن الناس أن لا حاجة إلى احتضان أو مساندة. وهنا تكمن المشكلة: حين يُترَك القوي وحيدًا، لأنه نجح أكثر من اللازم في إخفاء ضعفه
الإيجابية قد تحمي الآخرين من آلامنا، لكنها لا تحمينا نحن. بل قد تزيد الجرح عمقًا حين يتوقف الجميع عن السؤال، ظنًا أن كل شيء على ما يرام. إن الابتسامة حين تتحول إلى جدار سميك، تصبح عبئًا على صاحبها أكثر مما تكون حماية للآخرين
بين الجهل والأنانية
ليس كل من يُقابل صمودنا بالقسوة أنانيًا متعمدًا، أحيانًا يكون جاهلًا بما نخفيه. لكن النتيجة واحدة: مزيد من الثِقل على كاهل من اعتادوا حمل أثقال غيرهم. إننا حين لا نرى الجرح المخفي، نضيف إليه ملحًا دون أن ندري. الصامدون ليسوا آلهة، هم بشر يحتاجون إلى كلمة طيبة، إلى عناق صادق، إلى من يلتقط ضعفهم قبل أن يسقطوا في هاوية الإرهاق النفسي
كم من أم تُخفي دموعها لتُشعر أبناءها بالأمان، وكم من أب يُخفي ضعفه ليحافظ على صورة الحامي. كم من موظف يبتسم لزملائه رغم ضغوط لا تنتهي، وكم من صديق يرفع معنويات الجميع بينما قلبه مثقل بالهموم. حتى في الرياضة والفن والسياسة، نجد وجوهًا لا تفارقها الابتسامة، ثم نُصدم بخبر إصابتهم بالاكتئاب أو استسلامهم لليأس
في النهاية
القوة الحقيقية ليست في غياب الألم، بل في القدرة على النهوض بعد كل سقطة. والإيجابية ليست في الضحك فقط، بل في أن نحيا رغم الدموع. لكن، يا ليت من حولنا يتذكرون أن حتى الأبطال يبكون في صمت، وأن الصامدين يحتاجون أحيانًا إلى من يربت على أكتافهم، لا إلى من يثقل كواهلهم
لا تنخدعوا بالابتسامات، فخلفها قلوب قد تكون منهكة. وتذكروا أن أقوى الناس هم أكثر من يستحقون الحنان، لا أقلهم حاجة إليه. قد ننجح في أن نخدع العالم بابتسامة، لكننا لا نستطيع أن نخدع قلوبنا. فهناك صمت يصرخ، ووجع يتخفى خلف ضحكة عابرة، وقوة ظاهرية ما هي إلا درع هش يصدّ العيون، لكنه لا يصدّ الألم
لا تجعلوا من صمود الآخرين مبررًا لإهمالهم، ولا من قدرتهم على العطاء سببًا لتجريدهم من الاحتواء. فحتى الجبال – مهما بدت شامخة – تنهار إذا لم تجد سندًا
القسوة الحقيقية ليست في جرح من يبكي، بل في تجاهل من يبتسم وهو يتألم. تذكروا دائمًا: أقوى الناس ليسوا مَن لا يسقطون، بل مَن ينهضون رغم جراحهم وهؤلاء، أكثر من غيرهم، يستحقون أن نجد بجوارهم، قبل أن تنهكهم معاركهم الصامتة.
اضف تعليقك على المقال