الكاتب : أشرف محمدين
كثيرون يظنون أن الفشل هو مجرد خسارة فرصة أو هزيمة في تجربة أو تعثر في مشروع. لكن الحقيقة الأعمق أن الفشل الحقيقي يبدأ أبكر من ذلك بكثير، يبدأ في اللحظة التي يتسلل فيها الخوف إلى القلب والعقل فيشلّ الحركة، فيجعل الإنسان مترددًا، حائرًا، عاجزًا عن اتخاذ الخطوة الأولى التي قد تكون هي بداية الحلم. فالخوف من الفشل ليس مجرد مشاعر عابرة، بل هو جدار صلب يبنيه الإنسان بنفسه حول روحه، يقيده بقيود وهمية لا يراها سواه، وكأنه اختار أن يسجن نفسه دون أن يدري. والمفارقة أن هذا الخوف الذي يتوهم صاحبه أنه يحميه من السقوط، هو ذاته الذي يحرمه من المحاولة، ويسرق منه أعظم ما في الحياة: فرصة أن يجرب ويخطئ ويتعلم.
الإنسان الذي يظل أسير فكرة “ماذا لو فشلت” لا يدرك أنه بذلك يقتل كل الاحتمالات الأخرى، ويختزل حياته في سيناريو واحد هو الخسارة، بينما ينسى أن يطرح على نفسه السؤال الأجمل والأقوى: “ماذا لو نجحت؟”. هذا السؤال وحده كفيل أن يفتح الأفق، أن يجعله يرى أن النجاح لا يولد في لحظة مثالية، بل يُصنع عبر المخاطرة، عبر التجارب، عبر السقوط والنهوض مرات ومرات. فكم من عظيم سقط وتعثر آلاف المرات لكنه لم يتوقف، مثل توماس إديسون الذي لو توقف عند فشله الأول لما أضاء العالم، أو العقاد الذي لو استسلم لانتقادات من حوله لما أصبح أحد أعمدة الفكر العربي. التاريخ لا يخلّد الذين جلسوا على الهامش مترددين، بل يرفع أسماء أولئك الذين تجرؤوا على أن يواجهوا فشلهم، وأن يحولوه إلى طاقة تدفعهم إلى الأمام.
إن الخوف من الفشل يحوّل الحياة إلى سلسلة طويلة من الأسئلة المثقلة بالقلق: ماذا لو لم أنجح؟ ماذا لو سخِر الناس مني؟ ماذا لو خسرت كل شيء؟ وهذه الأسئلة تبدو كأنها تحاصر الإنسان ليلًا ونهارًا، فتسرق منه طمأنينته وتقتل داخله أي رغبة في المغامرة. أما حين يتحلى بالشجاعة ليتجاوز هذه المخاوف، فإنه يكتشف أن الفشل في ذاته ليس عدوًا بل صديقًا متنكرًا، يمنحه الدروس والعِبر، ويصنع بدايات جديدة ما كان ليحلم بها لولا التعثر الأول. الفشل تجربة تُعلّم، بينما الخوف تجربة لا وجود لها إلا في خيالك، لكنها مع ذلك تسرق عمرك كله دون أن تمنحك شيئًا في المقابل.
لننظر حولنا في الحياة اليومية، كم من إنسان بسيط بدأ من الصفر، لكنه قرر أن يحاول، أن يغامر، أن يسقط ثم ينهض، فإذا به يغير واقعه وواقع من حوله؟ وفي المقابل كم من آخر عاش حياته يخطط للفرصة المثالية، يترقب اليوم الذي يأتي بلا عقبات، لكنه لم يأتِ أبدًا، فضاع عمره وهو ينتظر لحظة لن تولد. هؤلاء هم الذين يموتون موتًا بطيئًا، لأنهم عاشوا داخل قوقعة الخوف حتى انطفأت أرواحهم.
والأدهى أن الخوف من الفشل لا يُبقي الإنسان في مكانه فقط، بل يحرمه من معرفة ذاته الحقيقية. فمن لا يجرؤ على التجربة لن يعرف قدراته الكامنة، ولن يكتشف مواهبه، ولن يتذوق نشوة الانتصار الذي يولد بعد الخيبة. أما الشجاع فهو من يفهم أن النجاح رحلة، وأن كل خطوة فيها – سواء كانت صحيحة أو متعثرة – هي جزء من الطريق. هذا هو الإنسان الذي يتقدم رغم العثرات، فيكتشف أن الصورة الأوسع لحياته لم تكن لتكتمل لولا تلك المحاولات.
إن التاريخ يثبت مرة بعد مرة أن الذين صنعوا بصماتهم الكبرى لم يكونوا الأكثر ذكاءً أو حظًا، بل كانوا الأكثر جرأة على مواجهة الخوف. لقد عرفوا أن الفشل مجرد محطة على الطريق، بينما الخوف هو النهاية الحقيقية، لأنه يطفئ الروح قبل أن تبدأ المسيرة. لذلك يبقى القرار قرارك: أن تختار أن تحيا مغامرًا، تسقط فتنهض، وتتعلم فتزداد حكمة وقوة، أم أن تظل رهينة مخاوفك حتى تجد نفسك في نهاية الطريق مجرد ظلّ باهت لإنسان كان يمكن أن يكون أعظم بكثير.
الخوف من الفشل، في جوهره، ليس إلا وهماً متضخمًا صنعه العقل. أما الفشل نفسه فهو الحقيقة التي يمكن أن نحولها إلى انتصار. وبين الوهم والحقيقة يتحدد مصير كل إنسان، فمن يجرؤ على أن يواجه خوفه ينقذ نفسه من موت بطيء، ويمنحها حياة مليئة بالخبرات والمعاني. فلنتذكر دائمًا أن الفشل بداية، أما الخوف فهو النهاية، والفارق بين الاثنين هو الشجاعة
إن الخوف من الفشل ليس مجرد عثرة في الطريق، بل هو بوابة مظلمة تُغلق أمام الإنسان كل احتمالات الحياة. الفشل في ذاته قد يكون بداية، قد يكون درسًا، قد يكون حجرًا يُبنى به جدار من القوة، أما الخوف فهو سجن لا جدران له لكنه يبتلع العمر كله دون أن يترك أثرًا أو فرصة واحدة لتجربة حقيقية. نحن لا نسقط حين نفشل، بل نسقط حقًا حين نختار ألا نحاول. فالمحاولة، حتى لو كانت ناقصة، أشرف ألف مرة من التردد الذي يقتل الحلم قبل أن يولد.
الحياة لم تُخلق لنعيشها في منطقة الأمان، بل لنغامر ونخوض تجاربها، نخطئ فننضج، نتعثر فننهض، نخسر فنكسب أنفسنا من جديد. وكل نجاح عظيم يبدأ دائمًا بخطوة صغيرة يتيمة ضد الخوف، خطوة تقول للعالم: “أنا أؤمن بقدرتي، حتى وإن سقطت سأعود أقوى”.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم: ماذا سيكتب التاريخ عنك؟ هل سيذكرك كإنسان عاش في الظل، يخشى الفشل حتى رحل دون أن يترك بصمة، أم سيذكرك كمن خاطر، وجرّب، وأخطأ، ونهض، حتى صار جزءًا من الحكاية الكبرى للبشرية؟ القرار بين يديك، واللحظة الحقيقية تبدأ الآن، لحظة أن تختار بين حياة يبتلعها الخوف، أو حياة سمتها الشجاعة
اضف تعليقك على المقال