الكاتب : أشرف محمدين
العدل هو القاعدة الراسخة التي يقوم عليها بنيان الحياة المستقرة، وهو الميزان الذي وضعه الله في الأرض ليحفظ به الحقوق ويصون به الكرامة، فلا تنحرف النفوس ولا تضل العقول. ليس العدل مجرد كلمة تُقال في الخطب، أو شعار يُرفع في المحافل، بل هو ممارسة يومية، تبدأ من داخل الإنسان قبل أن تُطبّق على الآخرين. فمن لم يعدل مع نفسه لن يستطيع أن يعدل مع غيره، ومن لم يعرف قيمة الحق لن يقدر على إنصاف المظلوم. والعدل في جوهره لا يعرف محاباة ولا يخضع لهوى، فهو يقف على مسافة واحدة من الجميع، لا يميز بين غني وفقير، ولا بين قوي وضعيف، لأنه يستمد قوته من الحق الإلهي لا من المصلحة البشرية. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه - الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم - وهي عبارة تحمل في طياتها حقيقة أبدية أن الظلم يسرّع بانهيار الأمم مهما بدت قوية، وأن العدل يمد في عمر الدول حتى وإن شابها قصور في بعض الجوانب
التاريخ يحدثنا أن الحضارات العظيمة لم تسقط فجأة، بل تسلّل إليها الظلم رويدًا رويدًا حتى خرّ بنيانها من الداخل كما أن أزهى عصورها كانت حين يسود العدل بين الناس فيأمن المظلوم ويطمئن الضعيف ويشعر القوي أن سلطته مقيدة بالحق. العدل ليس فقط قانونًا مكتوبًا في الكتب، بل هو إحساس الناس أن حقوقهم مصونة، وأن صوتهم مسموع، وأن ميزان الحق لا يميل بحسب النفوذ أو القرابة. وهو أيضًا القدرة على إعطاء كل ذي حق حقه دون بخس أو زيادة، حتى مع من لا نحب، فاختبار العدل الحقيقي يكون عندما نحكم بين خصومنا لا أصدقائنا. وللعدل صور كثيرة تبدأ من البيت حين يعدل الوالدان بين أبنائهم في الحب والرعاية، وتمتد إلى المؤسسات حين يلتزم القادة والمسؤولون بتوزيع الفرص على أساس الكفاءة لا المحسوبية، وتبلغ ذروتها حين يقف القاضي ليحكم بميزان الحق دون أن تهتز يده أمام تهديد أو إغراء
لكن العدل ليس مسؤولية الحكام وحدهم، بل هو التزام أخلاقي على عاتق كل فرد، في بيعه وشرائه، في شهادته، في تعاملاته اليومية، وحتى في حكمه على الآخرين بلسانه وقلبه فإذا غاب العدل من القلوب أصبحت القوانين مجرد أوراق، وأصبح الحديث عن الحقوق ترفًا لا طائل منه. العدل هو ما يمنح للحياة توازنها لأنه يزرع الثقة بين الناس ويجعلهم يشعرون أنهم شركاء في الوطن لا متنافسين على الفتات. وأي مجتمع يغيب فيه العدل ينهار فيه التضامن وتذبل فيه القيم وتتحول العلاقات إلى صراع بقاء لا أخلاقي
ولعل أعظم ما في العدل أنه يحرر النفس من أهوائها، ويجعلها ترى الحقيقة كما هي، لا كما تحب أن تراها. ومن لم يذق طعم العدل في حياته، سيظل يشعر بجرح داخلي حتى لو امتلك الدنيا بأسرها. فالعدل هو الذي يجعل القوي رفيقًا بضعف الضعيف، ويجعل الضعيف راضيًا بسلطة القوي، لأنه يعلم أن الحق لن يُضيّع. وإذا كان الظلم يورث الحقد في القلوب، فإن العدل يورث المحبة والاحترام، وهو ما يجعل الأوطان متماسكة لا تهزها العواصف
والعدل في النهاية ليس اختيارًا نلجأ إليه وقت الحاجة، بل هو فرض إلهي وضرورة إنسانية، من تمسك به ارتقى ومن تخلى عنه هوى، ولو ملك الأرض كلها. وكما أن الماء أساس الحياة، فإن العدل أساس البقاء، وإذا أردت أن تعرف مستقبل أمة فانظر كيف يقيم أبناؤها العدل فيما بينهم. وحين يسود العدل، تزدهر الأخلاق ويزدهر العلم وتزدهر الحياة نفسها، لأن الظلم مهما تجمّل فهو بذرة خراب والعدل مهما تعرّض للضعف فهو شمس لا تنطفئ. إن العدل هو الضمانة الوحيدة لاستمرار الحضارات وهو الوعد الصادق الذي يمنح الأمان لكل قلب فلا أمن بلا عدل ولا بقاء بلا إنصاف
اضف تعليقك على المقال