الكاتب : أشرف محمدين
في حياة البشر، تظل القيم الإنسانية هي الركيزة التي يقوم عليها البناء الاجتماعي، ومن أسمى تلك القيم قيمة العطاء، ذلك الفعل الذي يخرج من القلب ليصل إلى القلب، بلا شروط ولا مقابل، لأنه حين يصبح العطاء مشروطًا أو مثقلًا بالمنّ، يفقد معناه ويتحول من فعل إنساني راقٍ إلى أداة للهيمنة والسيطرة، ومن بين أكثر صور تشويه العطاء بشاعة، تأتي ظاهرة المعايرة، تلك التي تقهر النفس وتكسر الكرامة، وتزرع في الروح شعورًا بالمهانة لا يمحوه الزمن. إن المعايرة ليست مجرد كلمات عابرة يلقيها إنسان في وجه آخر، بل هي طعنة مسمومة موجهة إلى أعماق النفس، تحمل بين حروفها رسالة واضحة: “أنت مدين لي، ووجودك في موضعك الحالي لم يكن ليحدث لولا فضلي عليك”، وهنا يتحول الجميل من رمز للمحبة أو التضامن، إلى قيد يطوّق رقبة المتلقي ويشعره بأنه أقل شأنًا أو ناقص القيمة، وهذا في جوهره إعدام للروح المعنوية وإلغاء لحق الإنسان في الكرامة، لأن الكرامة لا تُجزأ، وحين يُسلب جزء منها تحت ذريعة العطاء، فإن المعنى الأصيل للإنسانية يكون قد انهار. وما يزيد الأمر خطورة أن المعايرة قد لا تكون علنية أو مباشرة، بل قد تأتي في صور ملتوية، كإيماءة أو نظرة أو حتى صمت ثقيل يوحي بالتذكير المستتر بالجميل، وهذه الطريقة قد تكون أعمق أثرًا في الجرح النفسي، لأنها تحمل إحساسًا بالتحقير دون منح فرصة للدفاع أو الرد. المعايرة أيضًا تكشف عن خلل في فهم العطاء نفسه، فالعطاء الحقيقي هو الذي يحرر الآخر من ألمه أو حاجته، لا الذي يقيّده بفضلٍ دائم، وهو الذي يمنح المتلقي شعورًا بالقوة والقدرة على الاستمرار، لا الذي يزرع فيه شعورًا بالدونية والعجز. وفي الأديان والثقافات كافة، نجد تحذيرات صريحة من المنّ بالمعروف، لأن هذا السلوك يمحو أجر الفعل ويهدر قيمته، بل إنه في جوهره نوع من الإساءة المقنّعة في ثوب الإحسان، إذ يختبئ القهر خلف مظهر الرحمة، ويُدار الإذلال تحت شعار الكرم، فيتحول الفعل النبيل إلى أداة أذى، وهو ما يجعله أشد خطرًا من القسوة المباشرة. كما أن المعايرة لا تضر فقط بالمستقبل للعطاء، بل تدمر أيضًا روح المعطي نفسه، لأنها تكشف عن دافع ملوث بالعُجب أو الرغبة في التسلط، وهذا يقتل جوهر الفضيلة التي يفترض أن تكون خالصة لله أو للمبدأ الإنساني، ومع الوقت يصبح العطاء عند هذا الشخص مجرد وسيلة لكسب النفوذ أو الشعور بالتفوق على الآخرين، وهو مسار يفسد النفس ويعزلها عن المعنى النقي للعلاقة الإنسانية. المجتمعات التي تسمح بثقافة المعايرة تفتح الباب لانتشار الخوف والنفاق الاجتماعي، إذ يبدأ الناس في تجنب قبول أي مساعدة خشية أن تتحول لاحقًا إلى سلاح ضدهم، وهذا بدوره يضعف التضامن الحقيقي، ويجعل المصلحة والمقابل هما لغة التعامل الوحيدة، بينما يختفي العطاء الحر الذي يُبنى عليه الترابط الإنساني. ولو تأملنا أثر المعايرة على الفرد لوجدناها أشبه بحملٍ ثقيل يضعف الإرادة ويزرع بذور الانكسار، فالإنسان الذي يُذكَّر باستمرار بما قُدم له، يعيش في حالة من الحذر والخوف من أن يُحاسب على كل لحظة أو موقف، ويتحول في النهاية إلى أسير شعور بالذنب المستمر، حتى لو كان استحق ما حصل عليه من مساعدة عن جدارة أو عن حق إنساني بحت. إن بناء مجتمع راقٍ يتطلب منا أن نعيد تعريف العطاء في وعينا الجمعي، فنفصله تمامًا عن أي صورة من صور المنّ أو الإذلال، وأن نغرس في أنفسنا أن الفعل الخيّر إذا لم يكن مقرونًا باحترام المتلقي، فهو ليس خيرًا بل إساءة متنكرة، وأن نعلّم أبناءنا أن الكلمة الطيبة بعد العطاء هي التي تحفظ المعنى، أما الكلمة الجارحة فتمحو كل أثر إيجابي لما قُدم. في النهاية، المعايرة ليست ضعفًا في الأخلاق فحسب، بل هي شكل من أشكال العنف النفسي الذي يترك ندوبًا عميقة في الروح، والجميل الذي يُعكَّر بالمنّ والمعايرة لا يرفع من شأن صاحبه، بل يفضحه، ويكشف ضآلة القيمة الإنسانية وراء ما فعله، لذا، فلنجعل العطاء سرًا بيننا وبين قلوبنا، وليكن إحساننا صامتًا، نقيًا، لا يحمل في طياته قيدًا ولا شرطًا، لأن الكرامة الإنسانية لا تحتمل المقايضة، ولأن العطاء الذي يُذكّر به صاحبه، ليس عطاءً، بل دينًا ثقيلًا على الروح، والإنسان لا يعيش كاملًا إلا حين يعطي بحرية، ويحترم من أعطاه، ويترك للزمن أن يروي الحكاية دون أن يلوثها بجرح المعايرة.
الخاتمة - المعايرة بين الأزواج - قتلٌ صامت للمودة
في الحياة الزوجية، يُفترض أن يكون العطاء بلا حساب، والودّ بلا شرط، والتضحية بلا انتظار مقابل. لكن حين تتحول المواقف النبيلة إلى أوراق ضغط، وتصبح التضحيات القديمة سلاحًا للمعايرة، تتحول العلاقة من مرفأ أمان إلى ساحة محاكمة.
كم من زوجة تُذكّر زوجها، كلما نشب خلاف، بأنها تحملت معه الفقر أو الغربة أو المرض، وكأنها تمنّ عليه بما كان يفترض أن يكون حبًا خالصًا. وكم من زوج لا يفوّت فرصة ليذكر زوجته بأنه أنفق عليها أو دعم أهلها أو وقف بجانبها في محنة، وكأن العلاقة الزوجية عقد تجاري فيه بند استرداد المكاسب.
المعايرة بين الأزواج ليست مجرد كلمات قاسية، بل هي عملية هدم صامتة، تنزع من القلب إحساس الامتنان وتزرع مكانه شعورًا بالمهانة. هي نوع من الاستعلاء العاطفي الذي يفسد حتى اللحظات الجميلة التي بُنيت عليها العلاقة.
الحب الحقيقي لا يعرف “فاتورة الجميل”، والزواج الناجح لا يقيس المواقف بمعادلة “أعطيتك… فماذا أعطيتني؟”. إنما هو بناء مشترك، كل طرف فيه يعطي وهو يعلم أن ما قدّمه صار جزءًا من نسيج العلاقة، لا ورقة ضغط تُلوَّح بها عند أول خلاف.
ولعل أصدق نصيحة هنا أن نتذكر أن أقسى أنواع القهر ليست تلك التي تأتي من الغرباء بل تلك التي تأتي من أقرب الناس إلينا، حين يلوّحون بماضٍ كان ينبغي أن يبقى ذكرى خير، لا أداة إذلال
اضف تعليقك على المقال