يمن اتحادي هو منصة إخبارية رقمية رائدة تسعى لتقديم تغطية شاملة وعميقة للأحداث الجارية في اليمن، مع التركيز على تقديم صورة واضحة وموضوعية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد

من مراتب الغباء - إطالة الندم على ما انتهى

أشرف محمدين

الكاتب : أشرف محمدين

في مسيرة الحياة، لا أحد منا ينجو من لحظات الندم. كلنا نخطئ، نُخدع، نُقصّر، أو نُضطر لاتخاذ قرارات في ظروف قاسية نعلم بعد مرور الوقت أنها لم تكن صائبة. ومع ذلك، فإن الوعي العاقل لا يكمن في البقاء رهينة لما فات، بل في القدرة على التحرر من أسر الماضي والاعتراف بأن ما حدث قد حدث، وأن الندم مهما طال لا يُغير من النتيجة شيئًا
حين يُطيل الإنسان الندم، لا يُظهر عمق إحساسه أو نُبل قلبه كما قد يظن، بل يورّط نفسه دون وعي في دوامة من جلد الذات لا تُنتج سوى التوقف عن الحياة. والأسوأ من ذلك أن إطالة الندم ليست فقط نوعًا من القسوة على النفس، بل هي من مراتب الغباء التي تُهدر طاقة المرء ووقته في التعلق بشيء قد دفنه الزمن. إن التشبث بالماضي وكأننا نستطيع إعادة تشكيله لا يدل على قوة ذاكرة أو إخلاص، بل على غياب البصيرة وضعف الإيمان بأن لكل مرحلة في الحياة عمر، وأن الله لا يُقدّر لنا أمرًا عبثًا
الغريب أن البعض يربّي هذا الندم بداخله كما لو كان كائنًا حيًا يستحق الرعاية! يتحدثون عنه، يحلّلون تفاصيله، يراجعون خطواتهم ألف مرة، يلومون أنفسهم أو غيرهم، وكأن الحزن صار وطنًا لا مفر منه. إنهم لا يُدركون أن هذه الحالة ليست إلا فخًا نفسيًا يحرمهم من الحاضر ويشوّه المستقبل
كم من شخص ضيّع أجمل ما في عمره لأنه لم يستطع تجاوز تجربة حب فاشلة؟ وكم من امرأة دفنت روحها في ذكرى زواج انتهى، أو صداقة خانتها، أو حلم لم يكتمل؟ وكم من شاب مكث سنوات في جلد الذات لأنه اختار وظيفة لم تلبِّ طموحه أو لم يُحسن استثمار فرصة؟ جميعهم وقعوا في فخ الغباء الهادئ: الغرق في الندم بدلًا من التعلّم منه
العاقل لا يُنكر مشاعره، لكنه لا يسمح لها بأن تتحكم فيه إلى الأبد. إنه يستفيد من التجربة، يُراجع نفسه، لكنه لا يُقيم عزاء دائمًا في قلبه. يعرف أن الندم لحظة ضرورية لكنها يجب أن تكون عابرة، تمامًا كالألم الذي يخبرنا أن هناك جرحًا، لكن لا يجب أن يبقى هو المسيطر على كل الحياة
في العصر الحديث، حيث تتسارع الأحداث وتُطاردنا الذكريات من خلال الصور، والذكريات الإلكترونية، والرسائل القديمة، صار التخلص من الندم أكثر تعقيدًا، لكنه أكثر ضرورة. لم يعُد لدينا ترف الوقت لنقضيه في اجترار ما مضى، خاصة ونحن نعيش في زمن يحتاج إلى روح يقظة، وإرادة مرنة، وقلب متجدد
الشباب اليوم بحاجة إلى أن يُدركوا هذه الحقيقة: لا أحد معصوم من الخطأ، لكن الذكاء العاطفي يكمن في أن تكون لك ذاكرة متوازنة. تتعلّم منها، لا تتعثر بها. تذكرها من باب الحكمة، لا من باب العتاب أو الانهيار. النضج ليس أن تتوقف عن الإحساس، بل أن تُحسن إدارة مشاعرك، وألا تبقى سجينًا في غرفة بندم لا نوافذ فيها
فلنُعلم أبناءنا وأصدقاءنا ومَن نحب، أن إطالة الندم ليست علامة وفاء ولا دليلًا على عمق الشعور، بل هي باب يُفتح على قسوة نفسية قد لا تُغلق أبدًا. وأن العقل الحرّ لا يضع نفسه في زنزانة الماضي، بل يفتح نوافذ الحياة ليبدأ من جديد
نعم - من مراتب الغباء أن نُطيل الندم على ما انتهى، لأن ما رحل لم يعُد يملك في حياتنا إلا الذكرى، والذكي من يُحسن طيّ الصفحة ويُكمل الكتاب
وهكذا، فإن من أعمق دروس الحياة أن ندرك أن الماضي لا يُعاد، وأن الندم المستمر على ما فات لا يُصلح ما انكسر، بل يُبقي أرواحنا أسيرة لحظة انقضت، وحدث انطوى، وخيار لم يعد قائمًا. إن التسليم بأن لكل شيء نهاية، وبأن بعض الخسارات قدر، هو في ذاته قمة النضج، وأول طريق الشفاء.
ليس من الحكمة أن نُهدر أعمارنا في اجترار الندم، نلوم أنفسنا ونعيد سرد القصة ذاتها، متجاهلين أن الحياة تسير، وأن لكل لحظة آتية جمالها وفرصتها. إن المرء حين يطيل الوقوف على أطلال خيبته، يُغلق دون وعي أبواب الحاضر والمستقبل، ويُطفئ في داخله شموع الأمل.
فلنجعل من أخطائنا جسرًا لا حفرة، ومن هزائمنا بداية لا نهاية، ومن دموعنا ماءً يسقي ما تبقى فينا من بذور الرجاء. لنتصالح مع أنفسنا، ولندفن ما يستحق الدفن في أرض النسيان، لا إنكارًا، بل حفاظًا على البقية الباقية من نور قلوبنا.
ويا ليتنا نُدرك أن أكثر ما يعوق تقدمنا في الحياة ليس الألم، بل العيش فيه طويلاً بعد أن يزول. فالإفراط في الندم لا يُعيد المفقود، لكنه يُفقدنا أنفسنا
فلتكن الشجاعة هي قرارك - أن تضع نقطة في نهاية الجملة، وأن تبدأ سطرًا جديدًا - لا لأنك نسيت، بل لأنك اخترت أن تحيا

اضف تعليقك على المقال