الكاتب : أشرف محمدين
في زمنٍ لم يعد فيه الحوار هدفه الفهم، بل الانتصار، غابت عنا تلك الحكمة التي لطالما رددناها: “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية”.
عبارة كانت تُقال في صدر المجالس، وتُعتبر قاعدة ذهبية في النقاش الراقي، لكنها الآن صارت مجرد ذكرى من زمنٍ كانت فيه القلوب أوسع من الألسنة.
اليوم، صار الاختلاف في الرأي أشبه بالقنبلة الموقوتة، التي ما إن تُلقى، حتى تنفجر في وجه الود، وتترك خلفها علاقات محطمة، ونفوسًا متألمة، وصمتًا يُغني عن ألف عتاب
تحوُّل النقاشات إلى معارك
تحوّل اختلاف الآراء في وقتنا الحاضر إلى صراعٍ محتدم، لا يُبقي للود بابًا مفتوحًا.
فبمجرد أن يختلف اثنان في الرأي، تنهار جسور الاحترام، وتُلقى التهم، ويُستدعى الماضي، وتُنبش النوايا.
وكأنّ الرأي المختلف إهانة شخصية لا تُغتفر، لا وجهة نظر قابلة للنقاش
صار النقاش ساحة حرب، لا مساحة تفهُّم. وكل طرف يلبس درعه، ويشهر لسانه، ويبدأ في إطلاق قذائف الكلمات.
ولو تجرّأ أحد على التراجع خطوة، اتُّهم بالضعف أو التردد أو “قلة المبدأ”.
والحقيقة أن الشجاعة اليوم لم تعد في التمسك بالرأي، بل في التواضع الكافي لسماع الآخر.
فقدنا ثقافة الاستماع
لم نعد نُحسن الاستماع. الكل يتحدث، ولا أحد ينصت. الكل يريد أن يثبت صوابه، ولا أحد يعترف باحتمالية خطئه.
وحين يغيب الإنصات، تُصاب بيئة الحوار بالعطب. فنحن لا نتحاور، بل نتبارز بالكلمات، نرفع صوتنا لا لنُسمِع، بل لنقمع.
المؤلم أن بعض الناس لا ينتظرون من الحوار سوى فرصة ليقولوا ما عندهم، ثم يغلقوا الباب في وجه أي رأي آخر.
وهنا نفقد روح الحوار - تبادل الأفكار وتوسيع المدارك وممارسة الاحترام في الاختلاف
الاختلاف في الرأي هو ثراء لا تهديد
الحياة قائمة على التنوع. اختلاف الآراء دليل على وعي المجتمع وتعدد زوايا النظر
بل إن أعظم الأمم وأكثرها تقدمًا هي التي استطاعت أن تدير اختلافها بوعيٍ واحترام
فالاختلاف لا يُفسد الود حين يكون مصحوبًا بأخلاقيات الحوار وتواضع الفكر، لكنه يتحوّل إلى سُمٍّ قاتل حين يختلط بالأنانية والتعصب والتكبر
التنوع الفكري مصدر قوة، لا ضعف. ولو كنا جميعًا نُفكّر بالطريقة نفسها لكانت الحياة باهتة، بلا لون ولا طعم ولا تطور
فلا خوف من أن تختلف الخوف فقط أن تفقد إنسانيتك أثناء ذلك الاختلاف
علاقات تنهار بسبب الرأي
كم من صداقة متينة انهارت بسبب نقاش سياسي عابر
وكم من علاقة أسرية توترت لأن أحدهم لم يتحمّل رأيًا مختلفًا في موضوع اجتماعي
والأخطر من ذلك أن البعض صار يختار علاقاته على مبدأ - من يتفق معي - لا - من يحترمني حتى في الاختلاف
وكأن التوافق التام شرط للحب والاحترام، لا التقبل والاحتواء
ويا ما سمعنا عن إخوة تقاطعوا بسبب موقف فكري، أو أزواج تباعدوا بسبب نقاش حول تربية الأبناء
أو أصدقاء فرّقتهم كلمة قيلت في لحظة غضب، لأن كل طرف تمسّك برأيه حتى كسر الآخر
الناس لا تُصنَّف برأي واحد
الرأي موقف لا هوية كاملة. فليس من العدل أن نحكم على إنسان بناءً على رأيٍ قاله في لحظة
ونتجاهل ما فيه من طيبة وخير وحنان الإنسان أكبر من رأيه وأعمق من لحظة اختلاف
من الظلم أن نحصر شخصًا في رأي سياسي أو ديني أو اجتماعي واحد، ونتعامل معه على أنه خصم أبدي
العلاقات تُبنى على الود، والتقدير، والمعرفة العميقة، لا على اختبار الولاء في كل فكرة.
و في الختام - نداء إلى الضمائر
فلنُحيي هذه العبارة من جديد، لا كشعارٍ يُقال، بل كثقافة نعيش بها -
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية
دعونا نختلف دون أن نكره، نتحاور دون أن نُهين، ونفترق دون أن نهدم.
فالمحبة لا تليق بالضعفاء فقط، بل بالأقوياء الذين يملكون قلوبًا تتسع للجميع، وآذانًا تسمع، وعقولًا لا تتصلّب
الحب في الاختلاف أجمل، لأنه يُثبت أن مشاعرنا لا تحكمها المواقف، بل تحكمها القلوب.
فلنعد إلى الجمال، إلى احترام الآخر، إلى الرقي في النقاش، إلى الرضا بأننا لسنا نُسخًا مكررة.
ولنتذكّر دومًا أن أسمى العلاقات تلك التي تستطيع أن تنجو من خلاف في الرأي لأنها تقوم على المودة لا على التشابه
اضف تعليقك على المقال