ارسال بالايميل :
9077
من رواية “الخوثي” الفصل الأول للكاتب / سام الغباري ..
*الفصل الأول
•••
مرحبًا..
أنا شاهين
أبلغ من العمر ثلاثين،
ومن الطول مائة وثمانين،
ومن الوزن سبعين.
في الماضي، كنتُ مشهورًا باسم "الأزرق"، أحيانًا "الحالي"، عبدالملك الحوثي كان يناديني "القُمري"، قررتُ أنْ أصل سنَّ الأربعين بإنجاز حكايتي المريرة قبل أنْ أموت!، فقدتُ كلَّ شيء؛ أبي، إخوتي الصغار، ولم أتزوج لأني لا أحبُّ النساء!.
*في الحرب السادسة، قتل عبدالملك الحوثي عائلتي، اختطفَهم إلى سجن صغير في آل مسعود بمنطقة سحار صعدة، وأمر أتباعه بزرع المتفجرات على أركان بيت صغير من غرفتيْن استخدمه لسجنهم، قضى عليهم جميعًا. مزّقهم، أحالهم إلى كومة رماد، واتهم بهم طيران الحكومة اليمنية، بعد سبع سنوات دخلتُ سجنًا انفراديًا على مسافة ثلاثة كيلومترات في الشمال الشرقي من عاصمة صعدة، أشاهد دخان الصواريخ وانفجار الرمل ودويّ الصوت. أتكوَّم على جسدي في زاوية الزنزانة، أنتفض لتأثير القذائف، ألعن الحرب ومُسعِّريها، أنتظر صاروخًا يُخطئ طريقه إلى خلوتي، يخترق الجدار، يمزِّقني. يدكُّ عظامي، ويدفنني تحت أطنان البارود والتراب. بين صاروخ وآخر مسافة عشر دقائق، كنت أغرس أصابعي على نتوءاتٍ وأحجار بارزة في الجدار. ألتصِقُ بجسدي وأرتفع كما تفعل السحلية، أعبُر بنظري إلى الخارج من فتحة صغيرة موصدة بشباك صلب، أشاهد البيوت على حالها، ودخانًا أسود كثيفًا في الجانب الأيمن من المدينة، صوت صاروخ يقترب، عواء مرعب أفلت أصابعي من النتوء، سقطتُ أرضًا بعنف، انفجار آخر قريب أيقظني من إغماءة طفيفة، حبوتُ على باطن كفيَّ وركبتَيَّ باتجاه ممرٍّ طويل ينفذ من الزنزانة، وينتهي بباب حديدي موصد من الخارج بسلسلة ضخمة عليها قفل ضخم لم أرَ مثله، على الجانب الأيسر قبل نهاية الممر دورة مياه. انفجار آخر قذف أتربة وحصى إلى داخل الزنزانة، درتُ حول نفسي مثل أفعى، قذفتُ جسدي إلى داخل دورة المياه، ضربة أخرى، صوت مفجوع يأتي من الزنزانة المجاورة، سمعتُه بوضوح من مخبئي تحت عمود المغسلة الفخاري الأبيض، كرر الصوت بهلع وبكاء، ومعه صوت آخر نداء استغاثة لآمري السجن لإخراجهما، في أعقاب الساعة الأخيرة للسجينيْن المسكينيْن ظنَّ أفراد الحراسة أنَّ الطيران غادر أجواءهم. اقتربوا بعربة (بي أم بي) مدرعة، أطلقوا سيلَ رصاص من المدفع الرشاش في الهواء، خبْط أقدام على الحصى، ضربات ثقيلة تهز باب الغرفة المجاورة. ارتفع صوت غاضب "اسكتوا يامرتزقة، لن تخرجوا!، أنتم مَن يحدد لطائرات العدوان أماكن القصف"، هرعتُ لباب زنزانتي، ضربته بكلتا يدَيَّ، صحتُ: أخرِجوني، أنا شاهين. أصوات في البهو الخارجيِّ رددَت اسمي، أحدهم يقول: إنه هنا!. آخر يردُّ: أخرِجوه؛ نحن نبحث عنه منذ يومين. جلجلة سلسلة فولاذية تُسحب على مقبض الباب، كفُّ عنصر حوثي تظهر من ضلفته، يصيح بهلع "هيا، اخرُج بسرعة!"، عند البوابة الرئيسة، قبضتُ على ذراع الفتى الناحلة أستمهله، أستعطف نخوته لتحرير السجينيْن ونقلهما إلى مكان آخر. ردّ بحزم "إنهما صحافيان، ولدينا توجيهات من مكتب السيد أنْ يبقيا مكانهما". دفعني بخشونة قائلًا: "لا تحاول!".بينما كنتُ محتضنًا خاصرة سائق حوثي من حرس "القلعة" على دراجة نارية تأخذني لمكان لا أعلمه إنفاذًا لأوامر تاهت في زحام الحرب وهلع الأفراد وصواريخ التحالف، ضرب صاروخ مفاجئ عربة الـ(بي أم بي) وأحالها إلى كتلة لهب مشتعل، صوت صراخ يستغيث، شتائم، صاروخ آخر ضرب وسط "القلعة"، اخترقها مثل رمح غرس نصله في علبة كارتون، قذف بي ارتجاج الضربة وتأثير الضغط الهائل مسافة متريْن، حين فتحتُ عينَيَّ، أو هكذا خُيل لي، كانت السماء حمراء. حين فتحتُهما مرة أخرى، كانت السماء سوداء*
القلعة جبلٌ وسجن، استخدم الحوثيون مبنى حكوميًّا غير مأهول على قمته لسجن مخالفيهم، كانت تلك المرة الثالثة التي أصعد فيها إلى الجبل مشفوعًا بوصية "عبدالملك الحوثي" لا تؤذوه. السجن فقط، يلطفون العبارة بوصفها "توقيفًا تأديبيًا". في الأسبوع الثاني لإعلان الحرب العربية على ميليشيا الحوثي، زُجّ بصحفييْن في زنزانة مجاورة؛ الأول "عبدالله قابل" والثاني "يوسف العيزري"، مراسلان لقناة سهيل. في الزنزانة الثالثة أقصى اليمين زُجّ بـزميلي الضخم "جمال المقدشي". الصحافيان قُتلا على الفور، انهار عليهما سقف القلعة، الصاروخ فتح ثغرة لـ "جمال" في منتصف السجن، فرَّ منها مكسوًّا بُغبار هائل وفجيعة أصابته بخدوش رجل عاد لتوِّه من الموت، يمضي في طريقه إلى منزل والده مبهوتًا مثل شبح، يتحسس جسدَه غير مصدق أنه أفلت من قبضة عزرائيل، لم يلتفت وراءه لئلا يراه، حين سأله والدا الصحافييْن قال: "كُنت أسمع أنينًا"، اختتم الإجابة بشتيمة قاسية نالت من عبدالملك الحوثي وأبيه. سيارات الحوثيين نبشَت شوارع المدينة بحثًا عنه، اقتحمت غرف أصدقائه، لم يغتسل "جمال" إلا في مأرب، ناوله "سلطان العرادة" بندقية AK، وخط سلاح ناري بتسعين رصاصة، وفي مطارح نخلا على ضواحي مأرب، اصطاد "جمال" عشرات الحوثيين، قال لرفيقه "مبخوت المرادي": سأذيقهم الموت الحقيقيَّ!.
*هي المرة الأولى التي يفاجئني "عبدالملك الحوثي" بحضوره، حين توقعتُ أنْ يُطل حارس السجن بعينيْه الضيقتيْن ووجهه الضخم بأذنيْن مثل "فيغا" في مسلسل غرانديزر الكرتوني، سمعتُ صوتًا مألوفًا من الماضي، أدرتُ وجهي إلى الوراء، فكان هو، وحيدًا، وسواد ظاهر حول جفنيْه أثار عاطفتي، أعيتْه الحرب في كلِّ الجبهات. منذ 2004 ويده مغروسة في الدم، أظهرت تقاسيم وجهه شحوبًا واضحًا، همّ بقول شيءٍ، أغلقتُ شفتيْه بلمسة سبّابتي، همستُ في أذنه: اليوم أنا إمامك، وغدًا تصير إمامي!، افترَّ ثغرُه باسمًا، لم يعلِّق. ضُرب الصاروخ قريبًا من محبسي، وأضاء وهجه فراغ الغرفة لثوانٍ، وعاد السكون إلا من أنين الإمام الجديد!.*
لم تهدأ صواريخ التحالف حتى مطلع الشمس، لم يهدأ أحد! كان كل شيء مبللًا ومحترقًا، فاضت السماء بمزن فائض عن حاجة الحقول، صعدة أعلنت أنها لن تزرع شيئًا، قررت الانتقام، الهاشميون في هذه البلاد زائدون عن حاجتنا كيمنيين، وقد أدركوا صنعاء فارغة فاحتلّوها، تمدَّدوا في كلِّ ريف ومدينة، قال لهم "عبدالملك الحوثي" أريد أنْ أسمع صراخ اليمنيين، وقال لي قبل أنْ يخرج من غرفة العقاب إنه سيأمر أتباعه بإحضار شاشة تلفاز نقية، ومعدات تشغيل للطاقة الشمسية. "إنه يُحب أنْ يُعامل أسراه وفق ما قالته الشريعة"!. انحنيتُ بحركة مسرحية وقلتُ: ما أعدلك يا مولاي!. ضحك متجاوزًا الممر في طريقه إلى الخارج، سمعتُه ينادي أصحابه الذين يُخلصون له حدَّ التضحية بأنفسهم، ثم صرير الباب الحديدي. الضوء يتسلل من كوَّة صغيرة في هذا المحبس اللعين، اغتسلتُ، ودنوتُ للصلاة.
*بعد شهر، أصدر عبدالملك الحوثي قراره بالإفراج عني للمرة الثالثة. تابعتُه على شاشة قناة المسيرة، حفظتُ خطاباته، شاهدته منكسرًا، مُهدِدًا، وغاضبًا، كان شخصًا آخر، ليس ذلك الذي ألفتُه صديقًا في طفولتنا، يبتسم بمكر، ويؤذي حدَّ جريان الدم، يكذب بلا وازع، ويتذلل كحقير. وضع آمر السجن الغليظ الأغلالَ في يدي، أمرني بالصعود إلى عربة تنتظرني عند بوابة السجن "الجديد"، فردتُّ قامتي، تمتمتُ: "أخيرًا!"، ذهبتُ باتجاههم، أعادني ضوء ذلك الصباح الساطع إلى الوراء قليلًا، استخدمتُ ذراعي لحجب أشعة الشمس، قفزتُ بخفة إلى كرسيِّ الراكب في المقعد الأمامي، انطلقنا بحذر في شِعاب ضحيان، على الجهة المقابل للطريق الترابي على أنقاض مبانٍ دمّرتها طائرات التحالف العربي، حتى بلغنا منزلًا صغيرًا معزولًا من الطين، عليه حارسان يرتديان ملابس يمنية وقد بدت سحنتهما كقوقازيين، حررني السائق من قيودي واقتادني إلى داخل المنزل، وهناك التقيتُ بعبدالملك، سعيتُ لعناقه، لكنَّ يدًا مجهولة انتزعتني إلى الخلف، فارتبكتُ. قال لي بصوت بارد كالثلج: لقد أفرجتُ عنك وفاءً لما بيننا من الصداقة القديمة، ونظر إلى عيني مباشرة فأطرقتُ، برهة أخرى من الصمت قبل أنْ يُكمل حديثه: أريدك أنْ تغادر صعدة على الفور وتنضمَّ إلى اللجان الشعبية، ومن اليوم صارت كُنيتك: "أبوعقيل"، أومأتُ برأسي موافقًا، رفع سبّابته كأنه يُحذرني: طاعة السيد من طاعة الله، لا أريد سماع اعتراضات أخرى!. صمت، انتظرتُ طويًلا لأعلق: بالطبع. تنهَّد عبدالملك وأردف: نحن نواجه قوى العدوان التي تريد سحق نضالنا ومحو محبة الناس لآل البيت، ولو تركناهم لخياراتهم لقتلونا واستضعفونا كما فعلوا بشقيقي حسين رضوان الله عليه، ومن واجبكم كيمنيين أنْ تنتصروا على هذه القوى المستكبرة، ونشدد على الصرخة فإنها تهز عروشهم!.*
وماذا بعد؟. قُلت.
*رفع كفيْه في مواجهتي، تحرك قليلًا إلى اليسار، حرص أنْ يُغلف صوته بنبرة حزن: يجب أنْ تتذكر أنَّ مَن قتل عائلتك هو "علي عبدالله صالح"، ولكنه اليوم حليفًا مؤقتًا. انتفضتُ مفزوعًا: ما الذي حدث؟ حاول أنْ يستفيض، لكني لم أسمع شيئًا، لم أتذكر ما قاله، حاولتُ تذكيره بعهده القديم بينما نقف على أطلال المنزل الذي دُفن والدي وإخوتي تحت خرابه، حين عهد إليَّ قيادة "كتيبة الموت"، كُنّا خمسين شابًا نواة الكتيبة، جمعنا ثأر واحد. الانتقام من رؤوس النظام الذين سحقوا عائلاتنا في حروبهم الست. لم أُلقِ بالًا إلى ثرثرة تتهم "عبدالملك الحوثي" بالقتل، حين أفضتُ إليه بأقوالهم، لم ينبس بشفة، تأمَّلني طويلًا، ثم تركني في غرفة معتمة كان صالح الصماد يقف في زاويتها اليمني، حين خرج، اندفع الصماد يلومني بشدة على شكوكي، سألني بحذر: "مَن أشعل الحرب؟"*
- عفاش.
*- هو القاتل يا شاهين.*
بلى، مازلت أذكر يدَ الصماد تصافحني، وشفتيْه تتحركان بيمين مغلَّظة تُقسم على قوله وبراءة سيده. حين خرجتُ من فرجة الباب الخشبي، أطلقتُ زفرة حارة، استدرك الصماد ماكرًا ومعلقًا: يا شاهين أنت القمري حقّ السيد. ضحكت. رفعت سبابتي مُنبهًا وعلى طرف شفتي ابتسامة لدعابته.
بعد سنوات انتظار الظفر بـ "علي عبدالله صالح"، تدور بي الأرض، مُنهارًا على كرسيٍّ حديدي بالقرب من مدخل الغرفة العطنة، لا أدري أين كُنت!؟، وصوت يهمس في أُذُني، لا تصدّق السيد!، أقسم لك أنه من فجّر منزلكم وقتل عائلتك كلها. كانت الشمس ترسل أشعتها النافذة في ذلك الصباح المفجع، وشَعر الرجل الكثيف يتدلى على وجهي، ولثام أسود يحجب أنفه وشفتيْه.
*مَن أنت؟ سألته.*
أنا عبد الله، ولن أبيع ذمتي.
*بكيتُ كثيرًا، انتحبتُ كامرأة، مكتوف الركبتيْن بالذراعيْن على ظهر سيارة مكشوفة في الهواء، سمعتُ صوت الطائرة يقترب، يدنو كثيرًا، ثم يرتفع ويغيب، وكأنها رأت دموعي فغادرت من حيث أتت. كان المرافق الجديد يجلس في زاوية السيارة ينشد زامله:*
نقسم برب العرش خلاق السماء
بانعدم الجيش السعودي نعدمه
*اصمت أيها الأحمق، فأنا لا أحتاج شيئًا من هذا الهراء!، قلتُها في نفسي، وقد توقف عن إنشاده، هل سمعني؟ كان يحدق فيّ كمجنون ظامئ أدركه الموت، عيناه جاحظتان نافرتان تكادان تقفزان من محجريْهما، وشحوبه أصفرُ كلون الجراد.*
ما اسمُك؟ سألته
*مثنى جرادة*
أطلقتُ ضحكة هيستيرية في الهواء، بلغَت مسامع السائق الذي توقف في حركة مفاجئة قفزَت بهذا المرافق الجرادة ليصدم رأسُه بنافذة الزجاج الصغير، ويطير سلاحه الآلي إلى الزاوية الأخرى، يتآوه. أخرَج السائق رأسه من النافذة المجاورة صاح: ماذا هناك؟ نهرتُه بكفي: لا شيء، كنتُ أضحك.
*تضحك؟! أجابني مندهشًا*
أيوه.
*ألم تكن تبكي وتنتحب قبل قليل؟*
نعم.
*ما الذي تغيَّر يا أبا عقيل؟*
وقعَت عبارته في نفسي موقعًا استجاب له غروري، وأردفتُ حاسمًا أسئلته المتطفلة: لا شيء؛ فقط أنا متحمس لإعدام الجيش السعودي!
*كلنا يا سيدي كلنا، بعدهم, بعدهم "غادي الله بغادي". وانطلقت السيارة.*
وصلنا مركز مدينة صعدة، أطلال مبانٍ حكومية استعملها الحوثيون مخازن للسلاح وأصابتها صواريخ التحالف العربي، المرافق الجرادة يشرح صمود عناصر الشعبية، سألتُه: وماذا عن عفاش؟
*التفت برأسه المضحك: سنقتله، لكنَّ أوامر السيد لم تصل بعد.*
كان كلُّ شيء بائسًا في صعدة، صوت الموت يعلو، وشعار جماعة الحوثي يملأ الشوارع يلطخ الجدران، لون أخضر وأحمر قانٍ تتخله عبارات الموت لأميركا وإسرائيل!، سألتُ مرافقي: ما هذا كله؟
*إنها ألوان الشعار، شعارنا. وضرب صدرَه بفرح*
وعَلَم اليمن؟!، سألتُه
*لا لون إلا هذا، ولا شعار إلا الصرخة. قالها بحسم*
هذا هو شعار حسين الحوثي، أتذكر اللون الأحمر والأخضر.
يستمر الشعار باستمرار المسيرة القرآنية، شعار سيدنا الجديد
أها.. إذًا هو عبدالملك..
*نعم، إنه السيد.*
لا يعرفون سيدهم كما أعرفه، تفاصيله الصغيرة منذ صرخ ليلة السبت في بيت والده القصير، فقيه القرية حتى بلوغه ورحلاته في جماعة الشباب المؤمن، انهياراته العاطفية، ابتلعتُ أسراره في جوفي، هي أسرارنا معًا، لحظاتنا معًا، يوم شدونا في مزارع البرتقال على ضفاف قرى دماج، نسترق السمع ونرمي الطلبة السلفيين الأجانب ببقايا الطماطم الفاسد، نصرخ في وجوههم: ارحلوا يا وهابيّين. مازلت أتذكر تبسُّمهم، ذلك البوسنيّ الطويل ذو اللحية الصهباء يمسح عن نفسه الأذى ويستغفر الله، ولا ينهرنا، يمضي هازئًا، أتذكر أصابع عاقل القرية العجوز ترفع عبدالملك من أذنه، صوته مثل فحيح، يسأل بعينيْن حمراويْن: "مَن أرسلك يا عاق؟"!، عبدالملك يصيح من الألم مُرددًا: إنه أبي، أبي.
أين عاقل قرية دماج الآن؟ سألتُ المرافق
*قتله المجاهدون.*
أووه، لماذا؟
*إنه داعشيّ.*
أشحتُ بنظري بعيدًا، وطفقتُ أمشي كالعدو وحيدًا في نهاية يوم بارد، السماء قانية بلون الدم على تخوم المدينة، وخلف جبل الصلب ترج أنواع الصورايخ تدكُّ عددًا من مخازن التسليح.
*في المساء، غادرت الشوارع بحثًا عن منزل آمن، ألفيتُ "علي المرتضى" على باب حانوت صغير، دعاني إلى منزله فاعتذرتُ، سألني عن قرار سيدهم الأخير بتوليتي مهمة جديدة، أجبتُه مؤكدًا، ربت كتفي مهنئًا، وطفق يحدثني عن أشياء تافهة، لقد انتصرنا في نجران، قوات العدوان تخسر ونحن نتقدم في جيزان وعسير، صواريخ السيد الباليستية ترجُّ شوارع الرياض وتدكُّ المدن!، أشاهد شفتيْه فقط، صدري يؤلمني مرة أخرى، كلما شعرتُ بالحزن تغيم الحياة في وجهي، ثم أسقط.. أنا الآن في مستشفى السلام في صعدة. يهمس الأطباء أنَّ ورمًا ثقيلًا ينمو ببطء في رئتي اليمنى.*
••
في الزمن البعيد، كان عبدالملك الحوثي فتى والده الصغير، بعد أنْ غادر شقيقه الكبير حسين إلى صنعاء ليؤدي اليمين الدستورية عضوًا في برلمان دولة الوحدة مُحققًا نصرًا غير متوقَّع في انتخابات شرسة، دعمته قوى المدّ الاشتراكي ممثلًا عن حزب الحقّ الزيدي، توليفة من الثوريّين أخسرت منافسه المحظي بتأييد حزب المؤتمر الشعبي العامّ. علي عبدالله صالح الحذر مثل غراب لم ينتبه للفائز الجديد، لم يكن شخصًا مميزًا، نادرًا، صالح يملك فقط تلك الحساسية الرئاسية من تغوُّل الزيود المتشددين في صعدة واستقطابهم لأبناء العشائر اليمنية من قبائل خولان بن عامر، حين وصل حسين الحوثي إلى صنعاء الغريبة على متن سيارة دفع رباعي، انصرف شقيقه عبدالملك لإدارة شؤون مسجد القرية، لم يكن يقضي حاجة من شؤون والده الخاصة، لرغبة أبيه أنْ يبقى في مسجدهم، يتعلم فقه الزيدية التي تواجه الانحسار ومصاعبَ جمّة من التمويل والتأييد والحشد، فعلى بُعد كيلومترات قليلة من مسقط رأس حسين الحوثي نشأ أول تهديد لزيديتهم. مقبل بن هادي الوادعي أسَّس أولى حواضن السلفية الراديكالية، وهناك كانت المواجهة نارية بلا سلاح، حديث بحديث، تفسير بتأويل، تضعيف أسانيد، جرح رواة، حروب استقطاب بالغة الأهمية تلقى دعمًا من الرئيس "علي عبدالله صالح" وشقيقه "محمد" بوصفه رجل السلف الأول في النظام.
*أوقف "حسين الحوثي" سيارته أمام منزل اللواء يحيى المتوكل وزير الداخلية، كان جائعًا،لم يتناول شيئًا منذ مساء الأمس الأربعاء، بالقرب من كوخ خشبيٍّ صغير لحراسة الوزير، أشار حسين إلى الجندي البدين، سأله: "هل السيد هنا؟" قطّب الجندي حاجبيْه، زمّ شفتيْه، تبسّم "حسين" أقصد، هل الوزير هنا؟ ثم أردف سريعًا "أبلِغه أني حسين الحوثي وقد جئتُ إليه في موعدي حسب توجيهاته". نقر جنديُّ الحراسة هاتفَ الكوخ الأرضي الأسود ذي الأزرار الفضية، انتظر برهة، مطرقًا إلى الأرض، شفتاه تتحركان، ثم يعود لمراقبة الرجل الجالس أمامه خلف مقود سيارة الدفع الرباعي بُنية اللون، غطّى بكفه سماعة الهاتف وسأله، ذكّرني باسمك؟ مَن؟.*
قل له: حسين... حسين الحوثي.
*أغلق الجندي سماعة الهاتف، خطى بتثاقل نحو السيارة، أدخل رأسه من النافذة، سأل: هل لديك سلاح؟. تبسم حسين "قريبًا"، ثم ضحك، أعاد الجندي رأسه إلى الوراء في حركة دفاعية، ظهرت على ملامحه حيرة وسكنته ريبة شرطيٍّ أحسَّ الخطر، اندفع بيد غليظة يفتح باب السيارة، يفتِّشها بدقة، انتبه لوقع ضربات خفيفة على ظهره، استدار وألفى أحمد نجل الوزير يعلق ضاحكًا ماذا تفعل؟ الوالد منتظر ضيفه الجليل، إنه عضو مجلس نواب! ألم تسمع بالقانون الجديد الذي يمنحهم حصانة من التفتيش.*
أطلق حسين ضحكة مكتومة وقلّب كفيه عجبًا "هكذا هم العسكر!"، ترجَّل من سيارته معانقًا الفتى الأمرد، وبقليل من المجاملة عاد حسين الحوثي يقود سيارته وسط غابة صغيرة في فناء الوزير الواسع، أشجار الزينة، زهر بساتين، أشجار طلح، شتلات صغيرة من الرمان تنمو على الجانب الأيمن، شجرتا تينٍ عربي. كلب حراسة أسود يفز وينبح، في المربع الأخير، أطلَّ منزل الوزير، ثلاثة أدوار مبنية بطريقة هندسية حديثة، عمودان إسمنتيان من الأسفل رُصِّعا بفسيفساء إيرانية ينتصبان شامخيْن في مواجهة البوابة الخشبية العالية وإليهما تستند شرفتا الدور الثاني والثالث، في الأرض سلالم طويلة من الرخام الرمادي. تلفَّت حسين حوله وعلى حاجبيْه علت دهشة إعجاب، نفض ثوبَه الكاكي بيديْه، أدار رأسه إلى أسفل. تأكد من الكيّ بطريقة تناسب أناقة الرجل المقبل عليه من بوابة المنزل وعلى شفتيه ابتسامة ودٍّ، هرع حسين نحوه محاولًا إخفاء ارتباكه، ثم انقض على وجنتيْه بقُبلات ريفية أسعدَت الوزير الذي حيّاه بترحيب غامر، ورافقه إلى الداخل.
يتذكر حسين منزل والده الصغير عند سفح جبال المجازين، يتذكر الأرض التي بُني عليها منزلهم هدية من شيخ القرية سعيد هضبان، وهو زيدي موالٍ لآل البيت احتفى بمقدمهم من نجران بعد اغتراب قسريٍّ طويل حرمهم العودة إلى اليمن على مواقفهم المناهضة للثورة السبتمبرية التي أطاحت بحُكم الأئمة الزيدية، تألَّف المنزل المتواضع من طابقيْن من الحجارة المربعة، وسقوف خشبية تتدلى منها أسلاك إنارة بيضاء عشوائية، ثلاث غرف للمعيشة في الطابق العلوي، وديوان طويل في الأسفل لضيوف السيد. في الخارج مزرعة صغيرة وإسطبل خشبي للماشية ومسجد أصغر لتأدية دور الفقيه، في غمرة التهليل بعودة الأب ذي اللحية البيضاء القصيرة، لم يكُفّ أهالي القرية عن توزيع المعونات على العائلة الجديدة. أسرة المشاط أكثرها إخلاصًا وولاءً، وهبوا إليهم ابنهم مهدي لمعاونة ابن رسول الله في الأعمال الشاقة، بعد أعوام من ترتيب مداعة السيد النحاسية وغسل القات صار مهدي النحيل ذو الأسنان البارزة غُلام آل الحوثي وأكثرهم ولعًا بصداقة عبدالملك، كُنّا نخوض معًا نزاعًا دائمًا وسخيفًا بالأيدي على مَن يلمزه بلقب "الخوثي"، يضعون نقطة على الحاء، نقطة واحدة كانت قذرة بما يكفي لشحذ قوانا دفاعًا عنه من ألسنتهم .. في القاموس المحيط وجدّت تعريفًا لعبارة "الخوثي" ، إنه الرجل الذي تمتلئ كرشه بالقيح والصديد والدم !
*أولئك الأوغاد لم يقرأوا القاموس ، لكنهم يعشقون النميمة.*
إنه شهر تشرين الثاني "نوفمبر" 1982، اليوم الذي يعود الأبُ مع أنجاله إلى صعدة بعد عفو رئاسيٍّ سمح لهم بالمجيء مواكبةً لسلسلة قرارات عزَّزت الوئام الاجتماعي عقب اندمال حروب السنوات الطويلة لترسيخ فكرة النظام الجمهوري، وإزاحة الإمامة شريطة بقاء آخر الأئمة الزيديين في منفاه الاختياري بالمملكة العربية السعودية. في منفذ علب الحدودي استقبلهم موكب طويل لسيارات القبائل أوصلتهم إلى قرية الرويس بمديرية بني بحر، كان "عبدالملك" طفلًا في الثانية من عُمره، وكنتُ في سِنه تقريبًا، قالت والدتي إننا ولدنا معًا في عام واحد، غير أني أكبره بشهريْن.
"بعد بني بحر بنحو عام واحد، انتقلَت عائلة بدرالدين الحوثي إلى أرض كبيرة في ضحيان، حيث كان منزلنا، اشترى بدرالدين من جدّي قطعة أرض مساحتها عشرون لبنة، بنى عليها منزلًا صغيرًا من الطوب. في مساء 27 رمضان، بينما كُنّا نتشارك إفطارًا واحدًا، عرض جدّي إقامة سور واحد لكلا المنزليْن على نفقته. "بدرالدين الحوثي" نهض من جلوسه وقبّل رأسه بامتنان. جدّي شعر أنه رجل مبارك. "حسين الحوثي" في الجانب المقابل لوالده من المائدة، يقضم رِجل دجاجة وعيناه تتابعان بامتعاظ تذلُّل أبيه، شرب كأس ماء، ثم انزاح بجذعه إلى الوراء، قائلًا "أكرمكم الله على الإفطار، وعلى أنه ألهمكم خدمة آل بيت رسوله الكريم، صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين". ونهض من فوره.*
* * *
سيُقدمون الغداء قريبًا.. قالها اللواء يحيى المتوكل لضيفه، هز "حسين الحوثي" رأسه ببطء متسائلًا: هل معنا أحد؟
نعم، سيأتي السيد "أحمد الشامي" وابنُ أخيه "العقيد يحيى". سيكون لقاءً مثمرًا بإذن الله.
*الشامي الذي أصبح بعد ذلك وزيرًا للأوقاف في حكومة الائتلاف الوطني عقب انتخابات 1997م، جاء إلى الوزارة في أعقاب هزيمة نكراء لحزب "الحقّ" حرمتهم الفوز بمقعد نيابيٍّ واحد في موازاة خسارة مؤلمة أيضًا للحزب الاشتراكي اليمني في تلك الانتخابات التي خاضها رغم خسارته لنفوذه السياسي والعسكري في الجنوب اليمني على أعقاب حرب صيف 1994م، التي أزاحت الوجوه التاريخية من المشهد اليساري وخارطة السياسة الوطنية. لكنَّ أمرًا غير منطقيٍّ في سياسة الرئيس علي عبدالله صالح جعلتْه يهوى اللعب مع الأفاعي الخاسرة، أصدر قرارًا بتعيينه وهو أمين عام حزب الحق ليتولى حقيبة الأوقاف. في تلك اللحظة ظهر أحمدُ، نجل الوزير يدعو والده لاستقبال الضيفيْن الجديديْن. دخل الشامي بقامته القصيرة المُربعة ضاحكًا، حين رآه حسين الحوثي أقبل عليه محتفيًا. أحمد الشامي عجوز في السبعين لا يستبدل رداءه الزيدي العتيق، جُبّة من القماش الأسود المطرز على حوافها بميسم ذهبي، كوفية من القطن الأبيض تُغلِف قاوقًا من القطع الصغيرة الملونة وجنبية معقوفة حول الخصر يقال لها "توزة"، على جانبه الأيمن ابن أخيه بشارب أسود وقامة أطول بقليل من عمّه.*
بينما كانوا يتحلقون حول المائدة، أثار حسين الحوثي سؤالّا جادًّا: هل ترون كلَّ هذا الفساد الذي ينخر اليمن؟، غمغم البقية بصوت من أعماقهم، عاد حسين يُفسر لنفسه: إنه بقاؤنا على خطط الاستعمار الجديد والقوى المتكبرة واستكانتنا للظالمين، ومنعنا الجهاد وتحريفه على أيدي الوهابيين والإخوانجية الذين يتلقون عوائد مالية من السعودية لإيقاف مسيرة القرآن وتعطيل حقوقنا وتمييع واجبتنا إلى الشعوب الإسلامية. بدا أحمد الشامي غير مكترثٍ لما يقوله الرجل الريفي المتحمس، اهتمامه بقطع اللحم المكسوة بالقصدير كان الاهتمام الوحيد تلك اللحظة، وبين تجليات الصمت القلق يرفع عينيْه، يحدثه بفم مملوء بالطعام: فعلًا صدقت، استمر، استمر!. نحن هنا نسمع منك أكثر ما تسمع منّا. شعر حسين باجتياح حماسي أكثر لأفكاره، قال: حتى الزيدية اليوم وعلماؤها باتوا يستكينون للظالم وينسون ما قام به سِبطُ رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله في مواجهة المتكبرين الظالمين من بني أُميَّة، وكيف أنَّ دمه الطاهر انتصر على السيف الغشوم المُسلط على رقبته، قال كلمة الحق رغم كلِّ التهديد وأماني الترغيب، لكنه لم يحِدْ عن مبدئه ومسيرته القرآنية رافضًا حًكم يزيد –لعنه الله-، وهنا تداخلَت أصوات اللعن منهم جميعًا، ابتلع حسين قطعة خبز غمسها في آنية السلتة الثائرة مثل بركان، نقر عليها بحماس: هل ترون هذه المقلاة؟ إنها مصنوعة من الحجر الصعدي، ورأسي أشبه بها، صلب وعنيد لا تكسره الحرارة ولا يتمدد بها أو ينكمش بالبرودة. علّق نجلُ الوزير ساخرًا: باقي السلتة ياسيدي حسين وأنك مقلى مفيد!. لم يضحك أحد، تبادلوا نظرات حانقة، شعر الوزير بحرج وصرّف ابنه بطلبات أخرى شغلتْه عن الجلوس إلى الضيوف حتى نهاية الغداء.
*رنَّ جرس الهاتف الأحمر من زاوية الصالة، نهض الوزير. رفع السماعة. علا وجهَه اهتمام جادٌّ، تبادل مع محدِّثه بعض العبارات ثم أغلق السماعة وخطى نحو ضيوفه قائلًا: الرئيس يدعوني إلى المقيل في دار الرئاسة. وأردف بسبابته: "تعالَ معي يا حسين لتقديمك إليه". لم يتردد "حسين الحوثي"، وافق سريعًا.*
في موكب صغير يرافقه طقم عسكري من قوات الأمن المركزي، وعدد محدود من حراسة الوزير الشخصية بردائهم الأخضر، وصل اللواء المتوكل إلى دار الرئاسة. فُتحت البوابة الأولى، توقفَت السيارات المرافقة في الباحة المستديرة، وتقدَّمت سيارة الوزير وحيدة في طريق أسفلتي طويل، مرورًا بجامع النهديْن، حتى انتهت إلى فناء مبنى حجريٍّ صغير من طابق واحد، توزع حوله ستة جنود خاملين تدلت أعقاب بنادقهم على صدورهم، ترجَّل وزير الداخلية وحسين الحوثي وسارا بثبات نحو البوابة الخشبية. في طريقهما كان الجنود يؤدون التحية العسكرية للوزير الذي اكتفى بابتسامة مُشعة، في ردهة واسعة مضاءة بمصابيح صفراء ساطعة عُكِس ضوؤها على صلعة شاب في مقتبل العمر له شاربٌ كثّ وذقن حليقة. صافحه الوزير ثم التفت إلى حسين مشيرًا بكفه: هذا حسين الحوثي، عضو مجلس النواب من أبناء صعدة الباهرين، واستطرد موجهًا كلامه إليه: وهذا الرائد طارق محمد عبدالله صالح، تصافح الاثنان وتبادلا عبارات المجاملة الرتيبة، ترافق ثلاثتهم إلى المقيل الواسع، حيث الرئيس علي عبدالله صالح جالسٌ في صدره، أمامه طاولة فاخرة من خشب السنديان، تراكمَت عليها كتب مرصوفة باهتمام لا يوحي أنَّ أحدًا قرأها من قبل!، على بُعد متكئيْن من الرئيس جلس الشيخُ عبدالله بن حسين الأحمر، في الجانب الأيمن كان الشيخ ناجي الشايف، ثم الدكتور عبدالكريم الإرياني، وبجواره عبدالعزيز عبدالغني، ومحمد سالم باسندوة، ثم سالم صالح محمد. كان المقيل مزدحمًا بشخصياتٍ سياسية وأدبية. نادى الرئيس صالح وزير داخليته بصوت واضح: تعالى يا متوكل هنا بجوار صاحبك باسندوة، وأردف قائلًا: مَن هذا الذي معك؟ تقدَّم يحيى المتوكل إلى جوار طاولة الرئيس، انحنى، وقد طوّق صاحبه بذراعه قائلًا: "هذا حسين الحوثي، عضو مجلس النواب عن الدائرة 294 في صعدة!"، لم ينهض الرئيس، قال: أها، هذا الذي هزم مرشح المؤتمر الشعبي العام؟ أومأ حسين برأسه خجلًا مُعلقًا "كلنا مؤتمر يا فخامة الرئيس، تلك أسماء سميتموها". ضحك صالح وهزَّ ذراعه بحماس ثم دعاه إلى الجلوس في مكانه المناسب.
*حسين انتبه إلى الشَّعر الأبيض الذي بدأ يغزو رأس صالح، قضم قليلًا من ورق القات الملفوف بعناية في كيس دعائي لشركة البحر الأحمر للموارد المائية، على الجانب الآخر كان "سالم صالح" يتحدث بسرعة عن سنوات الحرب القاتلة في كانون الثاني يناير 1986م، لخّص الأحداث المأساوية بطريقة جافة وسكت، سأله صالح عن مصير عبدالفتاح إسماعيل الذي مازالت أصداء اختفائه الغريب تنثر مزيدًا من الأساطير والتأويلات!، قالت ابنته لمجلة العالم من لندن إنَّ والدها اتصل بها بعد أسبوعين من اندلاع الصراع العسكري مؤكدًا أنه بخير، وأنَّ هزيمة علي ناصر محمد وما تلاها من تطورات لتطبيع الوضع حتَّمَت عليه البقاء منشغلًا. سألتْه ابنته "هل يمكن أنْ يوصي مرافقيه بإحضار كمية قليلة من الخبز وبعض قناني الماء؟، وعدها بذلك ولم يحضر أو يتصل مرة أخرى ولم يصل الماء ولم يروا الخبز. كان "سعيد الجناحي" يردد دومًا أنَّ "فتاح| احترق بداخل دبابة سوفيتيية عتيقة أثناء عبوره من خور مكسر باتجاه المنصورة، وأنَّ قذيفة من الجانب الساحلي أصابت الدبابة وأحرقتها لساعات. شائعة أخرى رددها فتية الحزب الاشتراكي "أشيد" أنَّ عبدالفتاح إسماعيل تلقّى رصاصة بين عينيْه من مسدس رفيقه علي سالم البيض، على وقع خلاف صارخ حول طبيعة المعركة العسكرية. رأي ثالث يحكي مصرعه في مقر المكتب السياسي للحزب الاشتراكي بمديرية التواهي برصاص "حسان" مسؤول الحماية الجسدية للرئيس المهزوم بعد ذلك علي ناصر محمد.*
* * *
دلف المقيل الرئيس اليمني الأسبق المشير عبدالله السلال مرتديًا فنيلة قطنية وجاكتًا رماديًا من البوليستر، وعلى رأسه كوفية قطنية بيضاء وفي إبطه حُشر كيس صغير من القات، حيّا الرجل ببشاشة وطيبة كلّ الحاضرين، وصافحهم. الدكتور عبدالكريم الإرياني أجلسه إلى جواره، وقد أزاح متكئه ليفسح له مكانًا. الشيخ عبدالله الأحمر أشاد بمواقف السلّال الوطنية، وتذكَّرا معًا أحداث ثورة 26 سبتمبر 1962م، وخلافاتهما، عبدالعزيز عبدالغني ابتسم. حسين الحوثي كان يغلي في متكئه. يتمنى لو أنه يبلغ السلال ليقبض روحه!، لكنه اكتفى بابتسامة باهتة لا معنى لها، رفع صالح صوته موجهًا حديثه إلى السلال: أنت الوحيد في اليمن الذي يحمل رتبة المشير؟، ضحك السلال وكانت سكسوكة بيضاء تزين وجهه الأبيض الممتلئ، ثم أردف مجيبًا: لكلِّ زمان دولة ورجال يا فخامة الرئيس. انتابت حسين الحوثي سعلة مفاجئة وثقل سعاله حتى تحول إلى فحيح، ونهض مسرعًا إلى الحماماتِ المرفقة بآخر المقيل للتخلص من السعال المفاجئ، وهناك تخلَّص من القات، شرب ماءً وقليلًا من قناني كندا دراي الغازية، ثم عاد إلى قاته، وقد تبدَّلت أحواله وبدا الاحتقان على وجهه.
*بعد ساعات.. أنهى صالح المقيل بإشارة من عصاه الصغيرة، وتفرَّق الجمع وعلى آثارهم خدر القات اللذيذ، هائمين في شوارع صنعاء كلٌّ إلى منزله وأشغاله، كان المساء طاغيًا بليلة غير مُقمرة، المقاهي الجديدة في شارع حدة ترفع علم الوحدة، أعمدة الإنارة تتوزع في منتصفها صورتان للرئيس ونائبه الجديد القادم من عدن، قطة صغيرة تموء في منتصف الشارع تتجه ببطء حذر إلى برميل نفايات كبير بجوار منزل عبدالملك السياني، افترق حسين بسيارة أحد مرافقي الوزير إلى حيث وقفت سيارته، اللواء يحيى المتوكل ذهب إلى مبنى الوزارة الحجري الضخم لإتمام أعمال اعتاد إنجازها كل مساء..*
تحدد موعد الاجتماع القادم في مزرعة الوزير بمديرية عبس - محافظة حجة، في ذلك اللقاء بعد أسبوعين اتفقوا على إطلاق منظمة تُدعى الشباب المؤمن تُعنى بعملية "إحياء فكرة الزيدية" مذهبًا ووسيلة في نفوس اليمنيّين الذين لم يدركوا آثارها، وقد تراءت لهم كذكرى من زمن أسود وماضٍ متخلف ومريض.
*على طول طريق العودة إلى منزله في صعدة كان ذهن حسين مشغولًا بترتيباته المذهبية، استعادة الزخم الزيدي الذي صار ضعيفًا في نفوس اليمنيين، تذكر ذلك فغضب، ضرب المقود بيده. سأل نفسه بصوت مسموع: كيف وصل صالح إلى السلطة؟، هذا القبيلي المتخلف الجاهل يغتصب سلطة آل البيت ويظهر مغرورًا بتحقيق الوحدة؟!، ثم يسترسل في سخط: ليس العيب فيه، بل فينا نحن كورثة لآل البيت وقد تواكلنا عن رؤية الحق وتراخينا في ظلِّ هذا النظام الفاسد، وسعى كلُّ واحد فينا إلى مصالحه ووظائفه، قبلنا الدنيا على العليا والمال على الفردوس، وحرصنا على عيالنا ولم نعلمهم معنى الشهادة، حتى الرسالة استبدلناها بميثاق وطنيٍّ لتنظيم متآلف من موظفين وسياسيّين انتهازيّين لا يفهمون في كتب الأمجاد وتراث آل البيت، أفسدتهم مدارسُ علي صالح وأغشاهم الانقلاب على الأئمة عن رؤية مَن يحكمهم من متحذلقين، لا شأن لهم بشيء، ولا سبيل لصلاحهم.*
حسين الحوثي تأثَّر من سُلطة الرئيس وحراسته وهيلمانه، رددّ تمتماتٍ غاضبة تشبه طقطقة المطر الذي بدأ يتساقط بكثافة على زجاج سيارته، وصوت مسّاحات التنظيف تكشط الماء جيئة وذهابًا، يمينًا ويسارًا، قال في نفسه: أريد أنْ أكون مثل هذه الآلة الديناميكية الرفيعة التي تغسل الزجاج حتى أرى بوضوحٍ كلَّ شيء، ولن تكون في حوافي قطعة مطاط، بل شفرة حادة، حادة جدًا.
*في 1 يوليو 2002م، أطلق حسين الحوثي صرخته الجديدة في وجوه أصحابه الذين جمعهم بمسجد قريته بريف مران الشاهق، قال لهم إنَّ الموت لأميركا سبيل الخلاص من قوى الاستكبار العالمي، وتساءل: هل تستطيعون ترديدها؟، تلفَّت أنصاره إلى بعضهم ورددوها على استحياء، صاح فيهم: قِفوا وافعلوها، سيرددها الكثير وستجوب أنحاء اليمن كما جابت أنحاء إيران!.*
اضف تعليقك على الخبر