ارسال بالايميل :
9303
يمن اتحادي - متابعات*
يحكي عصام قصته التي حدثت منذ بضعة أيام إذ يقول :
كان يوم السبت الماضي هو اليوم الرابع منذ وصولي من الغربة بعد غياب عامين ، صحوت العاشرة صباحاً من نومي و أخذت ورقة فئة ٥٠٠ ريال سعودي و ذهبت لمركز المدينة لصرفها ، توجهت بعدها لسوق القات و أخذت قات بعشرة آلاف ريال لي و للأسرة ثم توجهت للجزار و لسوق الخضروات و الفواكه و أشتريت ملئ أكياسي مما لذ وطاب و بينما أنا خارج من السوق لمحته ، لم يكن وجهه غريباً ، توقفت منذهلاً و أنا أتأمل إليه و هو يعتلي دراجة نارية ضمن العديد ممن ينتظرون الخارجين من السوق للركوب معهم ، عرفته رغم تلك النظارة المخدشة على وجهه و تلك المشدة التي يرتديها ملثماً ربع وجهه و جاكته المتهالك ، بينما هو قاعد على دراجة متهالكة يتفحص وجوه الخارجين من السوق لعله يظفر براكب يأخذه مشوار ، فجأة وقعت عيناه على عيناي فناداني بصوت خافت بينما ملامح وجهه غير واثقة من تلبيتي لدعوته : هيا مشوار يا ( أستاذ ) !!
ما إن سمعت صوته حتى تأكد لي أنه هو هو ، نعم انه هو ذاته الأستاذ نبيل ، فشلت السنين في تغيير نبرة صوته بعكس وجهه ، أستاذ الرياضيات الذي درسني بالمرحلة الإبتدائية قبل قرابة العشرين عاماً ، يا لسرعة الأيام و قسوتها ، أقتحمت التجاعيد ثكنات وجهه و غزى الشيب دقنه و شواربه و حاجبيه دون رحمة !!
توجهت نحوه و سط نداء بقية سائقين الدراجات لي و الراغبين بركوبي معهم ثم استغرابهم لإختياري له رغم تهالك دراجته تاركاً دراجاتهم الملمعة الجديدة !!
لينهض هو بسرعة من دراجته كي يساعدني في حمل أغراضي فيما فرحة الفوز بي راكباً معه تكسو ملامح وجهه ..
ركبت خلفه ، قام بتشغيل دراجته و هو يقول: بسم الله يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم ..
قلت له مازحاً : شكلك يا حاج رقدت و عادك قمت ذلحين تشقي !؟
رد عليا : لا يا أستاذ ، قد قمت الصباح بس الشغل خفيف و عادك أول راكب استفتح به ..
لم أقتنع بعبارة الشغل الخفيف التي قالها لي ، غير أنني أثق بمعرفته في قرارة نفسه عن تهرب الركاب من الركوب معه بسبب دراجته المتهالكة و إن لم يعترف بذلك لي !
سألني بلطف : لوين تشتي يا ( أستاذ ) ؟
قلت له : أمشي طريق طريق و أنا باقلك ..
لم أكن أرغب بتحديد وجهة طريقي كي أجد المزيد من الوقت لأحادثه ..
تحرك أستاذي نبيل بدراجته النارية فيما أنا أتذكر لحظات المدرسة التي عشتها معه ، كم مرة طفحت يداي من عصاه لعدم كتابتي الواجب المدرسي و عبارته الشهيرة التي كان يرددها مع جميع التلاميذ دوماً بعد ضربهم بالعصا : ( أنا ما أضربكش أنت ، أنا أضرب هذه اليد اللي ما كتبتش الواجب ) !! ..
مضيت معه في شوارع المدينة قرابة العشر دقائق لبطئ دراجته و شيبوبتها و كان كلما مررنا بحفرة تهتز فيها دراجته تنطفئ و يعود لتشغيلها من جديد بإرتباك و سرعة ، كنت أشعر بتحرجه مني لأردد عليه مازحاً : ودفت اليوم معك يا حاج ، الموتور حقك قد شيب مثلك !!؟
ليرد هو بإستحياء شديد و بضحكة : المعذرة يا أستاذ ، شفتح الله علينا و شنشتري بوتن ( دراجة نارية جديدة ) !!
كم تألمت لحاله و نحن نمشي بطرقات المدينة فيما هو يصارع تلك الدراجة العجوز و كأنه يريد أن يثبت لي أنها لا زالت بخير !
قلت له : يا حاج ، شتربخ بالبيت أحسن لك من شغل الموتورات هذا تعب عليك !؟
رد عليا و هو يتنهد : نفسي اربخ يا أستاذ ، بس منو شنديلك ، علينا ايجار بيت و بنات يدرسين بالجامعة و اسرة ..
سألته : كم لك تشتغل بالموتور يا حاج ؟
صمت قليلاً ثم قال : مش كثير ، أنا كنت تربوي ، بس قد قاعدونا يا أستاذ و الراتب ما يجيش حاجة ، قلنا نقضي حالنا بهذا الموتور مصاريف و لعلمك عادو لو ما أستلمش سلل غذائية شفتضح يا أستاذ ، الفلوس معد لهاش قيمة !؟
قلت له و كأنني لا أعرفه : يعني كنت تدرس زمان !؟
أجابني بضحكة كاذبة خجولة : أيوه ، درسنا يمكن حق ٣٥ سنة و آخرتها أذانا فوق موتور ، شفت كيف !؟
أخيراً حددت له طريقي ليتجه نحو منزلي ، مضينا قرابة عشر دقائق أُخرى ثم وصلنا أخيراً ..
ما إن وصلنا لجوار منزلنا و توقف حتى هب من مكانه ليساعدني في حمل أغراضي ، بعدها سألته : كم حق المشوار يا أستاذ ؟
أجابني بخجل : هات كم ما تشتي يا أستاذ ، أنا داري أننا أخرتك بسبب الموتور هذا !
قلت له : لا ، حدد لي كم ، حتى لا أظلمك !
أجاب بقناعة : هات ٥٠٠ ريال بس ، البترول زاد سعره علينا هذه الأيام ..
أخرجت من جيبي ٤٠٠٠ ريال ، ثم قلت له : طيب و لو خليناها ٤٠٠٠ ريال يا أستاذ ، تمام ..
نظر إلى النقود في يدي و كأنه غير مصدق لما يراه ثم قال : يا إبني أكثر مبلغ لاقيته من حين بديت اشقي بهذا الموتور بداية الحرب هو ٢٠٠٠ ريال ، الأربعة الألف كثير يا إبني ، بقبل منك ٢٠٠٠ ريال بس لأجل اسير اصلح بها هذا الجني ( دراجته النارية ) !؟
قلت له : لا و الله كلها لك ..
ناولتها له ليأخذها مني على إستحياء و كأنه لم يصدق ما يجري ..
صعد على دراجته النارية و قام بتشغيلها و الفرح بوجهه يكاد يطير بخدوده العتيقة نحو السماء ..
نظرت إليه و هو يدعو لي بالبركة فحزنت و قررت أن أهزم ذلك البخيل الذي يختبئ بداخلي لأناديه قبل أن يتحرك بدراجته و بصوت عالي : أستاذ نبيل !!
فز أستاذي حين سمعني أذكر إسمه ثم أطفأ دراجته ليسألني بتعجب : تعرفنا ، أنت إبن من ما عرفتكش يا أستاذ !؟
تقدمت نحوه و قلت له : أنا واحد من طلابك يا أستاذ نبيل !!
بسرعة أزاحا الحرج و الحزن ملامح الفرح من وجهه ثم قال لي : أيش إسمك يا إبني !؟
قلت له : عصام ، درستنا قبل حوالي عشرين سنة ..
ضحك الأستاذ ضحكة خفيفة ثم قال : الله على أيام ، ربنا يوفقك و يفتح عليك و يحفظك يا إبني و اشكرك لكرمك معي ، أي خدمات يا عصام !؟
مددت يدي نحوه و صافحته ثم قبلت رأسه !!
أستغرب الأستاذ من تصرفي ذلك ، غير أنني قطعت لحظته تلك حين وضعت كل ماتبقى من نقود كانت في جيبي ( قرابة الستين ألف ريال ) في جيب جاكته المتهالك !!.
انتفض أستاذي كالأسد ليخرج النقود من جيبه بعزة و سرعة كي يردها لي بشئ من الغضب ويقول لي : أيش تعمل يا إبني ، لا لا الله يرضي عليك ، الحمدلله مستورة معي !؟
لكنني أرجعتها لجيبه و أنا أحلف عليه ألا تعود و قلت له : يا أستاذ نبيل أنا لا أعطيك الفلوس أنت ، أنا أعطيها لهذه اليد اللي علمتنا !!
ابتسم الأستاذ نبيل إبتسامة حزينة ليتذكر عبارته المشهورة معانا حين كان يدرسنا و قال لي : قول اليد اللي كانت تخبطكم !!
ضحكت وقلت له : لا بالعكس يا أستاذ ، لو مش عصاك يا أستاذ ما تعلمنا و وقعنا رجال ..
حاول مراراً إعادة المبلغ إلا أنني حلفت بالطلاق أن لا يعود ريال واحد لجيبي !!
طأطأ الأستاذ رأسه بحزن مستسلماً ، ثم كتم أنفاسه حتى لا يبكي ، غير أن تلك النظارة لم تنجح في إخفاء إحمرار عيناه و تلك الدموع التي أثق حتماً أنها نزلت من مقلتيه بعد مغادرته ..
....
لا تنسوا : في كل مدينة بهذا الوطن عشرات الآلاف إن لم يكن المئات حالهم كحال الأستاذ نبيل ، إبحثوا عنهم ، ستجدوهم ببساطة حولكم ، يكافحون و يعملون ، هم أناس عزيزون و نزيهون يصارعون الفقر بشراسة في ظل هذه الحرب و الغلاء الفاحش فلا تنتظروا منهم أن يمدوا أيديهم لكم ، حتماً هم لن يمدوها و إن ماتوا جوعاً ، بادروا أنتم و أكرموهم ، لا شئ سيبقى لكم في رصيدكم بعد رحيلكم من وجه هذه التعيسة سوى ما تقدموه لهم ...
شكراً عصام و كل كريم يبادر كما بادرت ..
#جازم غانم سالم
*منقول من مواقع التواصل
...
شارك هذه الرسالة كي تصل للجميع لعل البعض يستفيد منها ...
اضف تعليقك على الخبر