محمد فرحان القاضي
بعد أن قضينا غرضنا في عدن خلال ثلاثة أيام قررنا العودة إلى تعز.. كنت برقفة بعض الإخوة حيث خرجنا من أحد فنادق عدن في تمام الساعة الثانية والنصف ليلا يوم الاربعاء 26/2/2020 استقلينا سيارة أحد زملائنا واتجهنا صوب مدخل عدن الشمالي قاصدين التوجه إلى لحج ثم تعز عبر الطريق الرابط بين المحافظين (الوهط ..طور الباحة ..حيفان).
بعد أن تجاوزنا منطقة دار سعد ووصلنا إلى المدينة الخضراء فوجئنا بنقطة يبدو أنها مستحدثة، أوقفنا أحد العساكر وبدأ يسألنا..
من أين أنتم؟
أجبناه فعرف أننا من احدى المحافظات الشمالية..!!
بعد ذلك طلب منا بطائقنا الشخصية.. أعطيناه البطائق ثم ذهب على مايبدو إلى المسؤول الأعلى منه الذي كان يقبع في داخل أحد الاطقم الواقفة على جانب الطريق.
ماهي الا لحظات بسيطة حتى عاد وطلب من زميلنا السائق ركن السيار جانبا ثم طلب منا النزول من السيارة.
نزلنا من السيارة ماعدا زميلنا صاحب السيارة، حيث شفع له أنه من أبناء عدن.. بعدها طلب منا الانضمام إلى عدد كبير من الأشخاص الذين تم حجزهم جوار أحد الهناجر الكبيرة على الخط.. بعد مرور فترة بسيطة عرفنا أن هؤلاء الأشخاص هم من العمال والتجار والموظفين الوافدين من مدن شمالية.
كانت أعمارهم مختلفة فتجد الشاب الصغير والكهل الستيني والسبعيني، كان واضح على هيئة الكثير منهم أنهم في ملابس النوم. بل أن البعض منهم لا يلبس حذاء.. كان يقف عدد من العسكر حول الناس المحتجزين بلباس عسكري مصوبين رشاشاتهم باتجاه رؤوس المحتحزين، واضح ان هؤلاء العسكر يتبعون المجلس الانتقالي، يُعرف ذلك من خلال العلم الذي على بدلهم. كان بعضهم كاشفا وجهه والبعض الآخر ملثم.. سألت أحد القاعدين جواري منذ متى وأنتم هنا.. أجاب منذ الحادية عشر والنصف مساء.
بدأت تأتي تباعا أعدد أخرى من المحتحزين على شاحانات صغيرة من اتجاة دار سعد، ثم يفرغونها بضمهم إلينا.. كان منظر انزالهم من الشاحنات مخجل لمن لديه ذرة من انسانية، حيث يرافق انزالهم من الشاحنات بأشد أنواع السب والضرب بواسطة سير عسكري بأيدي الجلادين بالإضافة إلى الركل.. لم يراعوا حتى كبار السن، لم يتذكروا أنهم في سن آبائهم ممن جلبوهم، لم تشفع لهم شيبتهم. ولا قواهم الخائرة التي لم تمكنهم من الهبوط من الشاحنات الا بشق الأنفس..بعد مرور مايقارب الساعة سمعت في الطرف الآخر صوت ضرب السير ينهال على ظهور ورؤوس المحتحزين، نظرنا جميعنا ناحية الصوت، حينها خاف المحتجزون وبدأوا بالنهوض لتحاشي ما يحدث، حينها بدأ العساكر بالسب والشتم واللعن والتهديد بالقتل والسحل، ثم بدأ بعض العساكر بإطلاق الرصاص في الجو أو الى الأرض، فاندفع المحتجزون للهرب خوفا من الرصاص إلى شارع فرعي مظلم، ازداد حينها العساكر بإطلاق الرصاص الكثيف جدا من أسلحة الكلاشنكوف المختلفة العيار، مع اطلاق قنبلة صوتيه شديدة الانفجار.
حينها تسمرت في مكاني بعد محاولة تحاشي اندفاع المحتجزين. كنت انظر للعساكر وهم يطلقون الرصاص إلى الأرض، أو الجو. كنت أسمع أصوات الاستنجاد بالله تتعالى.
بعدها تم مطاردة المحتجزين الذين هربوا الى الشوارع المجاورة وتم تجميعهم من جديد مع اطلاق عبارات السب البذيئة والكلمات العنصرية ، ثم بدأوا بإهانة من أعادوهم.. ضرب على الوجه وركل على مختلف انحاء الجسم وبعض العساكر يضرب بسير عسكري غليظ.. ضربوا أمامي رجال شابت رؤوسهم، عرفت حينها معنى قهر الرجال، وأعوذ بالله من قهر الرجال. كيف لفتى يافع أن يضرب شيخا مسنا كيف له أن يشتم كهلا بسن أبيه، من أين تخرج هؤلاء الأوغاد.. لم أستوعب ذلك إلى هذه اللحظة.
لم يسمحوا لنا بشربة ماء الا واحد منهم رأيته يعطى مسنا بعض الماء ربما لأنه استحى أو تذكر شيبة والده. طلبت منهم الماء ولكن دون فائدة.
بعد دقائق رأيت العساكر على بعد أمتار ينهالون ضربا على شاب مع اطلاق كلمات السب البذيئة، لم أدري ما سبب ذلك، أصبت بالصدمة من هول الموقف، بدأ الشاب بالصراخ العالي مستنجدا بأمه ( يا ماه ...يا ماة.... ) كان صوته يدوي وهم مستمرون بالضرب، شعرت بغصة في حلقي مازالت عالقة حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، شعرت بالعجز والقهر معا، ما أصعب وأشد أن تشاهد أمامك إنسانا تنتهك كرامته وتقف عاجزا لا تستطيع أن تمد إليه يد المساعدة.. لم أستطع أن أحبس دموعي، تمنيت حينها لو أن الأرض تنشق وتبتلعني. تذكرت حينها أفلام شاهدتها عن معاملة النازيين لليهود، كانت المواقف متقاربة كثيرا، بل أشد..سألت نفسي من أين أتى هؤلاء الأوغاد بكل هذه القذارة، أين زرع كل هذا الحقد والكراهية . لماذا يتصرفون بهذه العنصرية المقيتة. كنت أسمع عن قصص مثل هذه تحدث في عدن لمواطنين من مدن شمالية ولكن لم أصدقها يوما ..ظننت أن هناك تهويل للأمر.
بعد برهه خبا صوت ذلك الشاب ولكنه لن يخبو من مسامعي ماحييت. كان صوتا للقهر والظلم الذي لم أشاهده الا في الأفلام أو قرأته في الروايات.
عند قرب الفجر أحضروا شاحنات كبيرة نوع فولفو، تستخدم في نقل النيس والكري، ويبدو أنهم اختاروها بعنايه فائقة، فحمولتها غير مرئية من أي ناحية ، وارتفاع مكان التحميل يصل الى مترين او أكثر قليلا، أي حين تشحن فيها الافراد وتمر بهم في الشوارع، لا يستطيع أحد معرفة ما بداخلها.
بدأوا بتنظيمنا في طوابير، مع اطلاق كلمات السب والشتم البذيئة. وضرب بعض المحتجزين الذين يتأخرون عن تنفيذ الأوامر.
ثم أمروا المحتجزين بالصعود إلى الشاحنات، وكانت عملية الصعود صعبة جدا ولا يقوى عليها الا الشباب، لأن المطلوب صعود الشاحنة من الجنب .. رأيت بعض الشباب يساعدون بعض كبار السن على الصعود ورأيت بعض كبار السن يصعد ثم يسقط، فيأتي عسكري ويوجه له الاهانات دون مراعاة لكبر سنه أو لشعره الأبيض الذي يملأ رأسه.
ومن المواقف التي صادفتني عند صعودي على الشاحنة رجل كبير في السن بعد أن ساعده أحد الشباب على الصعود، بدأ يتوسل الى العساكر بأن يمدوا له بأدواته التي تركها على الأرض، كانت أدواته عبارة عن كريك(مجرفة) يستخدمها في عمله وشوالة لا أدري ما بداخلها، ربما ماتبقى من ثيابه. كانت عيونه مغرورقة بالدموع، ويتوسلهم بكلمات تدمي القلب، واضح أن تلك الأدوات بالنسبه إليه كانت هي كل ثروته، ظل يصيح ويتوسل ولكن دون جدوى فاستسلم.
ظل الأوغاد يكدسون الشاحنات بالأفراد حتى بدأنا نشعر بالضيق والازدحام وبدأ البعض يصيح ...كفاية ...كفاية. صعد أحدهم لينظر ثم أخبر قائده بأن الشاحنة أصبحت مليئة..فرد عليه ( لا ...رصهم زي الدجاج). وبدأوا بإضافة المزيد من الأفرد..
بعدها انطلقت الشاحنات متجة شمالا، وكان وضعنا فيها صعب للغاية ..فنحن لا نشاهد سوى السماء نظرا لارتفاع جوانب الشاحنة . وبدأ البعض يشكو من التنفس ومن الضغط الشديد خصوصا عندما يدوس السائق على الفرامل. حيث كان يندفع الجميع إلى الأمام مما يسبب ضغطا هائلا.. وبدأ بعض الشباب بمساعدة كبار السن على الوقوف وذلك بإسنادهم.
بدأت أسأل بعض من هم بجواري عن كيفية تجميعهم. فأجابوني بعضهم .. بأنهم كانوا نائمين في اللوكندة وتم مداهمتهم واخراجهم بالقوة دون السماح لهم بأخذ أغراضهم الشخصيه ..وبعضهم أخذوهم من الشوارع وتركوا سياراتهم ..وبعضهم تم أخذهم من الفنادق .
بعد ما يقارب نصف ساعة توقفت الشاحنات. وبدأنا بالنزول.. فعرفنا أننا في منطقة صحراوية بعد نقطة الحديد باتجاه طور الباحة.
بدأ مسلحي المليشيات بإطلاق كلمات السب البذيئة وأمرونا بالجلوس وفتح شفرة التلفون، ليتأكدوا من خلوها من الصور التي توثق أعمالهم الدنيئة.. وبدأوا بركل شخص في وجهه وضرب بالاحزمة على مختلف جسده، ثم اقتادوه وربطوا يديه بواسطة شال( غترة) وربطوه الى سيارة.. ثم بدأت السيارة بالتحرك وبدا الشاب يجري ورائها لتفادي عملية سحله على الأرض.. وعندما انهار الشاب ووبدأ جسده يسقط توقفت السيارة .
بدأ بعدها أحدهم يبدو أنه قائد المجموعة بتوجيه النصيحة لنا بعدم العودة والتزام مناطقنا وأنهم سوف يذبحون من سوف يعود إلى عدن.
طلبنا منهم بطائقنا الشخصية فرفضوا رفضا مطلقا وهي بحوزتهم إلى هذه اللحظة..
بعدها أمرونا بالاتجاه نحو الصحراء ومنعونا من السير على الطريق الاسفلتي أو بجواره. وبعد أن شاهدناهم يعوودون الى الخلف عدنا للسير على الطريق باتجاه طور الباحة.
? تنويه..
ما كتبته هنا شاهدته بأم عيني ولمسته بكافة حواسي وليس نقلا عن أحد..
اضف تعليقك على الخبر