الكاتب : أشرف محمدين
في مسرح الحياة، لا يُسدل الستار إلا بعد أن تُعاد الأدوار. فكل فعلٍ يترك صداه، وكل كلمةٍ تُقال لا تضيع في الفراغ، بل تدور في فلك الأيام لتعود في لحظةٍ ما، قد تطول أو تقصر، لكنها لا تُخطئ طريقها أبدًا. “كما تُدين تُدان” ليست مجرد حكمة عابرة، بل قانون كوني، وعدٌ ربانيّ لا يتخلف، يُذكّرنا بأن العدالة الحقيقية لا تحتاج شهودًا ولا محاكم، فميزانها محفوظ في السماء.
كثيرون يظنون أن ما يفعلونه يمر دون حساب، وأن الظلم يُنسى، وأن الغدر يُغلف بالذكاء، لكنهم يجهلون أن الأيام لا تنسى، وأن القدر لا ينام. فالذي يُهين اليوم سيُهان غدًا، والذي يجرح دون رحمة سيذوق طعم الجرح في قلبه، ربما على يد غيره، وربما في لحظة ضعف لا يجد فيها من يواسيه. الزمن لا يُسرع ولا يتباطأ، لكنه دقيق في موعده، يُعيد المشهد في وقتٍ لا يتوقعه صاحبه، ليُريه صورته في مرآة الحياة.
“كما تُدين تُدان” هي ليست دعوة للشماتة، بل تذكير بالعدل. لأن ما يزرعه الإنسان في الآخرين يعود إليه مضاعفًا. من يزرع الطيبة تُظلله الرحمة، ومن يزرع القسوة يحصد الوحدة، ومن يزرع الغدر يجد نفسه وحيدًا بين أطلال علاقات خربها بيده. فلا شيء يضيع، لا دمعة مظلوم، ولا تنهيدة صامتة خرجت من قلب مكسور، فكلها تسافر في صمتٍ إلى السماء، وهناك تُسجَّل بدقة لا تخطئها يد القدر.
ولعل أجمل ما في هذه القاعدة أنها لا تقتصر على العقاب، بل تشمل الجزاء الحسن أيضًا. فكما يُدان الظالم بظلمه، يُكافأ الطيب بطيبته. كم من إنسانٍ قدّم خيرًا ثم نُسي، فإذا بالأيام تُعيد له الجميل في لحظة ضيق، على يد شخصٍ لا يعرفه! وكأن الله يرسل له رسالة خفية: “ما فعلته لم يضع، كنتَ كريمًا فكان الكون كريمًا معك”. وهكذا تظل الحياة تُدير عجلاتها في عدلٍ مطلق، لا يعرف المحاباة ولا يظلم أحدًا.
لكن المأساة الحقيقية أن البعض لا يتعلم إلا حين يدور الزمان عليه. يكرر الأخطاء، ويستهين بمشاعر الناس، ويظن أن الصمت ضعف، والصفح غباء، حتى تأتي لحظة يُذَاق فيها من نفس الكأس الذي سقى به غيره، فيدرك كم كان قاسيًا، وكم كانت تلك الأرواح التي آذاها نقية وصابرة. عندها فقط، يعرف أن “كما تُدين تُدان” ليست تهديدًا، بل إنذارًا نبيلًا من السماء قبل أن يقع الإنسان في دوامة الندم.
إن الله عادل، والكون قائم على التوازن. فلا تظلمن أحدًا، فربما يُبعث إليك ظلمك على هيئة ألمٍ في عزيزٍ لديك. ولا تستهِن بدمعة أحد، فربما تعود إليك في هيئة فقدٍ لا يُحتمل. ولا تفرح بخسارة من ظلمته، فربما يأتي اليوم الذي تحتاج فيه لرحمته فلا تجدها.
وما أجمل أن يعيش الإنسان مدركًا أن كل ما يفعله سيراه، وأن الدنيا لا تدوم لأحد، وأنّ القلوب التي نكسرها يومًا ستظل شاهدة علينا حتى بعد أن ننسى. فالعمر قصير، والكرامة لا تُشترى، والحياة أقصر من أن تُهدر في أذية الآخرين أو الكبر عليهم.
من يتقِ الله في أفعاله، ينام قرير العين مطمئن القلب، لا يخاف من غدٍ، لأن الغد لن يحمل له إلا ما زرعته يداه من خير. أما من اعتاد الظلم والاستهانة بالناس، فحتى لو بدا منتصرًا الآن، فسيأتي يوم يُعاد فيه الحساب، لا أمام الناس، بل أمام نفسه أولًا. هناك، حين يشتد الندم، لن ينفع التبرير ولا الوعود.
ولذلك، فلنحيا برفق، ولنزرع في الناس ما نحب أن يُزرع فينا. لنقل الكلمة الطيبة، ولنغفر قبل أن نُطالب بالمغفرة، ولنرحم قبل أن نرجو الرحمة. فالعمر مراحل، والقلوب تتبدل، لكن سُنّة الحياة لا تتغير: كما تُدين تُدان ولو بعد حين
في نهاية المطاف، تبقى الحياة مدرسة كبرى، لا تُسلم شهاداتها إلا بعد أن تمتحننا جيدًا. نغرس البذور كل يوم — بكلمة، بنظرة، بموقف، بقرار — ونظن أن الأرض قد ابتلعتها، لكنها في الحقيقة تحتفظ بها لتردها إلينا وقت الحصاد. فالله لا ينسى، والكون لا يُخطئ حساباته، والزمن وحده كفيل بأن يُظهر نتيجة كل ما فعلناه، خيرًا كان أم شرًّا.
ليست العدالة الإلهية بحاجة إلى محاكم، ولا شهود، ولا أدلة؛ لأن الحقيقة محفورة في القلوب قبل أن تُكتب في الأوراق. قد يتأخر القصاص، وقد يظن البعض أنهم أفلتوا، لكن القدر لا ينسى عنوان أحد. يومًا ما، يُطرق بابهم بنفس الألم الذي طرقوه لغيرهم، وتُعاد عليهم الكلمات نفسها التي جرحوا بها، وكأن الحياة تقول لهم بهدوءٍ قاسٍ: كما تدين تُدان.
لذلك، احذروا أن تظلموا، أو تخونوا، أو تكذبوا لتنجوا، فكل ما تفعلونه اليوم سيعود إليكم غدًا، لكن في توقيتٍ لا تتوقعونه، وبصورةٍ لا ترحم. واجعلوا ما تزرعونه في دروب الناس نُبلًا ورحمةً، لا قسوةً وانتقاما
اضف تعليقك على المقال