الكاتب : عبد السلام الدباء*
من بين كل القيم التي يتغنى بها الناس، يظل الوفاء قيمة انسانية راقية، وسراً يميز النفوس الكبيرة عن غيرها، فالوفاء ليس شعوراً عابراً أو موقفاً مؤقتاً، بل هو التزام أخلاقي عميق، يختبر صاحبه في لحظات حاسمة، ويظهر حقيقته أمام نفسه قبل أن يظهرها أمام الآخرين.. إن الوفاء هو المرآة التي تعكس صفاء القلب، وهو الرابط الذي يجعل العلاقات الإنسانية أكثر صدقاً وثباتاً.
وفي عالمٍ تتغير فيه القيم كما تتغير الفصول، وتُباع فيه المبادئ أحيانًا بأبخس الأثمان، يظل الوفاء إحدى أندر العملات الإنسانية التي لم تتعرض – حتى الآن – للتزوير الكامل.. فالوفاء ليس مجرّد كلمة رقيقة تُقال، بل هو عهد داخلي لا يفرّط فيه صاحبه مهما تبدلت الظروف.. إنه ذلك الرابط الخفي الذي يجعل الإنسان أكبر من مغريات الدنيا، وأقوى من نزوات اللحظة.
ومن أجمل ما يروى عن الوفاء، قصة صاحب الجمل التي أصبحت مضرباً للمثل في الأمانة والصدق.. فقد باع الرجل جمله في السوق، وأخذه المشترون إلى المذبح لينحرونه، لكن الجمل أبى أن يخطو خطوة واحدة، وكأن قلبه يرفض الغدر ويستنكر الفقد.. حاولوا دفعه وسحبه دون جدوى، حتى قال أحدهم: "أحضروا صاحبه، فلعلّه يستجيب له".. وبالفعل، ما إن اقترب الرجل من جمله، وأمسك بخطامه، حتى تبعه الحيوان مطمئناً، يمشي بخطوات راضية كما لو أنه يسير إلى قدر لا يخشاه طالما أن صاحبه يقوده.
لكن المشهد المفاجئ لم يكن في طاعة الجمل، بل في قرار الرجل؛ إذ لم يرض أن يكون خائناً لثقة من تبعه بطمأنينة، فوقف أمام الجميع قائلاً: "كيف أغدر بمن وثق بي وسلّم لي روحه؟".. ثم أعاد المال إلى المشترين، وأخذ جمله معه، ليخلد درساً خالداً في أن الوفاء لا يباع ولا يشترى.
هذه الحكاية تحمل رسالة تتجاوز حدود الزمان، وهي: أن الوفاء ليس مجرد قيمة قديمة تصلح فقط لقصص الماضي، بل هو مبدأ لا يسقط بالتقادم.. ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن حاضرنا يموج بأمثلة مؤسفة، حيث غدت المصالح المادية أقوى من أي عهد، وصار "بيع الجمل بما حمل" صورة رمزية لحال كثير من البشر الذين يضحون بعهودهم عند أول إغراء.
ولعل حياتنا اليومية مليئة بشواهد على هذا التباين.. فقد نرى صديقاً يقف إلى جانب صديقه في الشدة قبل الرخاء، وزوجاً يثبت وفاؤه لرفيقة دربه رغم الصعاب، وأبناءً يكرسون وقتهم لرعاية آبائهم في شيخوختهم، في مقابل آخرين يقطعون روابطهم عند أول خلاف أو عند أدنى مصلحة.. وبين النموذجين، يتجلى الفارق بين إنسان يزن الأمور بميزان الوفاء، وآخر يزنها بميزان المصلحة.
إن المجتمعات التي تفتقد قيمة الوفاء، تفقد بالتالي ثقتها الداخلية، وتصبح العلاقات فيها هشة لا تصمد أمام تقلبات الأيام.. أما المجتمعات التي تحافظ على هذه القيمة، فإنها ترسخ أساساً من الاحترام المتبادل والصدق، ما يجعلها قادرة على مواجهة التحديات بروح متماسكة.
واخيراً.. يبقى السؤال الطريف الذي يفرض نفسه في الختام،وهو: ماذا لو عاد صاحب الجمل إلى أسواق اليوم، هل سيجد من يعيد إليه المال بدافع الوفاء، أم سيجد من يفاوضه على "تقسيط الخيانة" بفوائد ميسّرة؟!
___
*مستشار وزارة الشباب والرياضة
اضف تعليقك على المقال