الكاتب : صهيب المياحي
فبراير ليس شهراً يُحصى في تقاويم العابرين، ولا تاريخاً يُروى ببرود المؤرخين. إنه لحظة تمزّق الزمن عن ثباته، اختلالٌ عنيف في ميزان الخضوع، احتراقٌ كامل في محراب الحرية، حيث يولد الإنسان من جديد بلا أصفاد ولا ظلال. كان الصوتَ الذي انبثق من قاع الصمت، القَسَمَ الذي انطلقت به الحناجر كأنها الريح الهائجة، الخطوةَ الأولى نحو الخلاص، حيث لا رجوع إلى الوراء ولا مساومة مع الظلام.
في ليلٍ مثقلٍ بالخيبة، خرج فبراير كالنار من بطن الحجر، كصوتٍ لا يعترف بالحدود، كماردٍ قرر أن يُعيد رسم العالم وفق نبوءة الطلقات الأولى. لم يكن انتفاضةَ جائع، ولا غضبَ لحظةٍ عابرة، بل يقظةَ روحٍ أدركت أن الصمتَ إثم، وأن الركوعَ خيانةٌ للوجود. كان ينايرُ تمهيدَ الطلقةِ الأولى، وكان فبرايرُ فيضانَ المدِّ العظيم، اللحظةَ التي تجلّى فيها الإنسان في أبهى صوره، لا شيء يقيّده، لا شيء يُعيده إلى قوقعته القديمة، لا شيء يطفئ الجمرَ المشتعلَ في صدره.
حين تهتزُّ الأرض تحت أقدام الجلادين، يندفع المذعورون لطمس ملامح النور، يحاولون خنق الهواء، طمسَ الأثر، اجتثاثَ الجذور قبل أن تمتد عميقاً في التربة. لكن للأشياء ذاكرة، للدماء لسانٌ لا يخرس، وللثوراتِ أرواحٌ لا تُمتهن. هم لا يخافون فبراير كتاريخ، بل كفكرةٍ تتناسل، كأملٍ يتجدّد، كصدى يرنُّ في الأفق كلما حاولوا طمس المعنى. هم يدركون أنه ليس حدثًا مضى، بل نهرًا يتدفّق تحت أقدامهم، بركانًا راكدًا في جوف الأرض، شبحًا يطلُّ من كل نافذةٍ أُغلقت بوجه الفجر.
لم تكن المسألة لحظةَ نشوةٍ عابرةٍ تنطفئ مع الوقت، بل انشقاقًا وجوديًا بين زمنين، بين روحٍ تُحلّق، وظلٍّ يحاول جرّها إلى العتمة. في كل مرةٍ يحاولون إعادة الأقفال إلى الأبواب التي كُسرت، نبتسم بسخرية العارف، نحن الذين خرجنا من أقبية الرهبة، من متاهات الصمت، من كهوف الطاعة العمياء. نحن الذين جُبلنا على الحلم، على الطرقِ المستحيلة، على السيرِ فوق الجمر حتى تنصهر القيود تحت أقدامنا.
لا شيء يعود إلى الوراء، لا شيء يُطفئ جُرحًا صار أفقًا، لا شيء يطفئ جذوة فبراير، لأنه ليس تاريخًا ينسحبُ من الذاكرة، بل وشمٌ حُفرَ في جبين الزمن. نحن هنا، لم ننكسر، لم نخف، لم نبع الحلم في مزاد الأوهام. فبراير فينا، في دمنا، في أصواتنا، في الحكايات التي لم تكتمل بعد، في الأيام القادمة التي ستنحني للتاريخ الجديد. نحن لا نعدو خلفَ الزمن، بل نكتبه، نعيد صياغته بحروفٍ من نورٍ لا يبهت، بحلمٍ لا يخبو، بثورةٍ لن تهدأ حتى تسير على قبور جلاديها، وتعود بيضاء كما وُلدت، باردةً كصفعةِ ثائرٍ في وجه الطغيان.
اضف تعليقك على المقال