ارسال بالايميل :
5285
الكاتب : مصطفى المخلافي
خلال عشر سنوات من الحرب والصراع في اليمن، ارتكبت أطراف الصراع انتهاكات واسعة للقانون الإنساني الدولي، ولحقوق الإنسان، شمل النزاع قصف مستمر على أغلب الأحياء والمدن والقرى اليمنية، مما سبب هذا الأمر في نزوح جماعي كبير داخل اليمن وخارجه، خاصة أن الحرب استهدفت بشكل مباشر مصالح المواطنين الخاصة والعامة، من منازل ومحلات ومستشفيات ومدارس وأسواق ومباني حكومية، عطلت بشكل رئيسي عجلة الحياة في البلد، وحولت الناس لأهداف عسكرية مباشرة يتم استهدافهم في كل مكان، كان أغلب الاستهدافات متعمدة وعشوائية في ظل صمت دولي مريب.
شلمت هذه الاستهدافات والانتهاكات المتعمدة، هجمات غير قانونية قتلت مدنيين، وقيدت حرية التنقل، ووصول المساعدات الإنسانية لكثير من المناطق المتضررة، ناهيك عن الحصار الذي فرضته الميليشيا الحوثية مع كل إجتياح كانت تقوم به، ومصادرة ونهب منازل المواطنين وتحويلها لثكنات عسكرية وإصدار أحكام الإعدام بحق معارضيها، كل هذه الأمور وأكثر ولدت قناعة لدى الكثيرين بأن النزوح والهجرة هما خيار النجاة من الموت الذي كان يحدق بهم ويزورهم كل يوم.
كل هذا العوامل والأسباب ساهمت في تهجير اليمنيين من اليمن، على المستويين الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى زراعة الألغام الحوثية التي حرمت المواطنين من المكوث في مناطقهم واختار الغالبية ممن تيسرت أمورهم السفر ومغادرة البلاد إما لدول الجوار، أو لجمهورية مصر العربية التي تولي اليمنيين اهتماماً ورعاية خاصة، أو لماليزيا والأردن وغيرها من دول العالم، ومن لم
يستطع السفر ظل يكابد الحياة من منطقة لمنطقة بحثاً عن الأمن وهرباً من بطش ميليشيا الحوثي وقهر الحرب.
كذلك غياب الخدمات الصحية والغذاء والمياة والكهرباء، ساهموا أيضاً في تشجيع المواطنين على الهجرة والنزوح الجماعي داخل وخارج الوطن، ملايين اليمنيين يفتقرون إلى مياة الشرب النظيفة وخدمات الصرف الصحي التي عدمتها الحرب، وارتفاع الأسعار وغلاء المواد الغذائية الأساسية التي كانت السبب الأبرز لنزوح المواطنين من مناطقهم نحو الحدود بحثاً عن مأمن يوفر لهم حياة كريمة ومستقرة.
في العام ٢٠١٥م، في بداية الحرب على اليمن ألتقيت صدفة بيمنيين في الرياض، فأثار إنتباهي نوعية الناس الذين ينتمون جميعهم إلى شكل واحد تقريباً، مجموعة من الشباب الذين لم يتجاوزوا العشرين عاماً، ومجموعة من النساء وحيدات مع أولادهن، بدوا لي بأنهم أقرباء، فقد كان واضحاً من ملامح وجوههم بأنهم لأول مرة يسافرون خارج الحدود، مجموعة من البُسطاء بوجوه شاحبة وتعابير تملئها الحيرة والحزن، والكثير من علامات الاستفهام في نظراتهم الخجولة، بدأو يتحدثون بصوت عالِ ويشرحون كيف غادروا منازلهم وكيف سلكوا الطرق المؤدية للحدود، وكيف نجوا من قبضة ميليشيا الحوثي وقصف طيران التحالف، فكرت حينها في هؤلاء اليافعين الذين لم يبق لديهم أي أمل في الخلاص سوى عبور الحدود والتأقلم في مجتمع بدو فيه غرباء، الأمر لم يكن غريباً علي لكنه كان مشوق رغم ألمه الشديد، أن تُقرر مجموعة أصدقاء أو مجموعة أسر الهجرة بشكل جماعي تاركين خلفهم كل أمتعتهم وذكرياتهم ومنازلهم التي بنوها بشق الأنفس وتعب السنيين، هذا الموقف جعلني أتذكر أحلامنا حين كنا صغاراً نتواعد على الإخلاص الأبدي وأن نبقى سوياً ونبني ونعمر منازلنا، نخطط لحياتنا بشكل جماعي، ونُسهب في طموحاتنا بأن نصبح يوماً أطباء، وطيارين، ومعلمين، ونحيي الأرض ونزرعها، وفي حين غفلة عيوننا ترى امامها وحش مُقبل على الجميع يخبرهم بضرورة المغادرة والنجاة من الموت.
لقد غادر أغلب اصدقائي اليمن، وأصبحوا لاجئين في دول كثيرة، ولم يبق لي سوى البحث عن أسماء القتلى والمفقودين والمعتقلين في سجون ميليشيا الحوثي، ومتابعة أخبار اصدقائي في عدة دول من العالم، ومن تبقى في اليمن فحاله حال الموتى والمعتقلين، وكلما رأيت صور لقتلى أجدني أبحث كالمجنون في مكاني، وأبحث عن أية معلومات تقودني لأسماء من قتلوا، صرتُ أخشى فقدان صديق أو قريب، أخاف أن يتملكهم الموت وأنا في مكاني أنتظر عودة الوطن، لدي عشرات الأصدقاء المعتقلين والمفقودين الذين لانعرف شيء عنهم، لا خبر، أو حتى رسالة، إن البحث عن المعتقلين والمفقودين في سجون ميليشيا الحوثي وانتظار عودتهم فعل عبث لا يضاهيه سوى فعل العيش في مدن تنتظر دورها في التدمير إما بالقصف الجوي أو بالمدفعية الحوثية.
إن الشيء الذي لم يستطع اليمنيين فهمه حتى الآن هو أنهم تحولوا من شعب مستقبل للاجئين من ( الصومال وأثيوبيا) ومؤخراً من السوريين، إلى لاجئين يعانون المرارة في كل مكان يذهبون إليه، أغلقت أغلب دول العالم الحدود في وجوههم، يدققون في تفاصيل ثيابهم وملامح وجوههم فيعرفون أنهم يمنيين، وهذا الأمر كفيل برفضهم، لكن المتأمل لهذا الاسفاف في المعاملة سيكتشف بأن العالم الذي تخلى عن اليمنيين، بل وبارك ذبحهم وقتلهم وأغرقهم في دمائهم، لايمكن له أن يكون ملاذاً آمناً لليمنيين، هذا العالم الذي دوماً يجد سبباً للتعاطف مع صورة لطفلة كالطلفة " بثينة " التي هزت العالم لأيام ثم طويت قصتها كما طوي البحث في أسباب مأساة ملايين اليمنيين.
بلاشك سيجري البحث بين الحين والآخر عن صورة مماثلة، يقدم فيها العالم لحظات قليلة من التعاطف مع شعب عاش ويعيش تحت القصف الجوي والمدفعية والصواريخ الحوثية التي لم تهدأ منذُ بدأ الحرب حتى كتابة هذا الخبر، دون أن يفكروا جدياً بإيقاف هذا النزيف المتواصل وإدانة ومحاكمة من تسببوا بجرائم حرب وإبادة بحق شعب أعزل، القصة أشبه ماتكون بقصة "موت مُعلن" إلا أن تحويل شعب بأكمله إلى لاجئين في الداخل والخارج، يبدو أنه الهدف الخفي لعدم إيقاف الحرب، وما خلق ودعم الحوثي إلا دلالة حقيقية على التخلي عن الواجب الأخلاقي لدعم الشعوب في سعيها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
مازلتُ أتذكر في العام ٢٠١٤م صديق لاجئ في كندا، غادر اليمن بعد فوضى ٢٠١١م زار الرياض وتعرفت عليه في فرح أحد الأصدقاء، دخل إلى قاعة الفرح، وبدأ يتحدث معي عن سبب مغادرته للعاصمة صنعاء، وكيف تعرض منزلهم للقصف الكائن في حي الحصبة، وكيف حولت ميليشيا وعصابات بيت الأحمر منزلهم لثكنة عسكرية، لم يحتمل الموقف وهو يشرح لي ذلك، بكى بمرارة وهو يسرد لي معاناته مع تلك العصابات، ثم توقفت عن الحديث معه لدقائق ريثما يهدأ، ولكن إذا كان من الممكن الحديث عن ذلك فإن من الصعب شرح الرسائل المتبادلة بيننا والقواسم المشتركة التي جمعتنا في هذا الموقف، فالحرب والفوضى هي من أتت بنا جميعاً الى هذا المكان وأجبرتنا على مغادرة وطننا، كما من الصعب شرح مرارة التهجير التي تعني إقتلاع شخص من مكانه، لم يختر الكثيرون حياتهم الجديدة لكنهم اضطروا إليها، حيث يعيش أغلبية اليمنيين في الداخل والخارج على المساعدات المقدمة إليهم، ومن فر من الحرب سيعيش من أجل تربية جيل جديد صالح ومتأقلم مع حياته الجديدة، لكن أطفالهم لن يعرفوا معنى الحياة القديمة التي عاشها آبائهم في موطنهم الأصل، وأمام كل هذا البؤس علينا أن نتخيل حبل الألم الذي سيمتد من القاهرة، وباقي المدن في هولندا ومدن أوروبا وتركيا ودول الخليج التي نزح إليها اليمنيين إلى مدن وحارات وأحياء وقرى اليمن قاطبة.
اضف تعليقك على المقال