كتابات

الفصل الخامس من رواية #الخوثي للاعلامي سام الغباري

 

بقلم : سام الغباري

5

*لم يكن اسمي شاهين أول ما خُلقت، قالت أمي قبل انتزاع روحها الدافئة إنَّ أبي سمّاني “سلّال”، ثم اختلى بمداعته النحاسية في غرفة الجلوس، أخرج من أنفه دخانًا كثيفًا، مرة ثانية، ثالثة. ثم استدار إلى أمي “سنسميه القردعي”، بعد أسبوع أُصبت بالحمى المالطية، قالت زوجة دوشان القرية لوالدي حين رأته قلقًا على حياتي، أنْ يصطاد عصافير كل يوم ويعصر لي مرقَها، فإنْ لم أُشفَ، فليخرج مترصدًا صقرًا بريًا. قَتَل والدي أغلب عصافير القرية، بقية العصافير أحسَّت خطر الفناء وهاجرَت، رحلت من وكناتها إلى أرزاقها، ونجت بنفسها، لم يعُد ثمة صوتٌ يغرد في غبشة الصبح الندي، عواء ذئب يأتي صداه من جبال مران، تجاوبه ذئاب أخرى، بينما تنضم كلاب قريتنا أيضًا بنباح يمزق أستار ليل بلا قمر. في أعقاب خسارتنا ثلثي مخزوننا من الدجاج التي استخدمهنَّ أبي كطُعم لصيد إحدى الصقور الهائمة في فراغ قريتنا المثقل بطقس متقلب، حيث غابت الحدأة وراحت الصقور مسلكًا آخر لا يحوم حول سمائنا، ربما حذرتهنَّ العصافير المهاجرة من رصاصات والدي. لكن.. وفي صباح 17 يوليو، بينما كان علي عبدالله صالح يقسم اليمين الدستورية أمام حشد من أعضاء مجلس الشعب التأسيسي لتولي منصب رئيس الجمهورية، أسقط والدي صيده، هوى الصقر كحجر، ارتطم بعنف على مقربة من شجرة كافور، علّقه أبي على فوهة بندقيته المخصصة للصيد ورفعها إلى أعلى سائرًا وسط الحقول، متجاوزًا منزل جارنا “بدرالدين الحوثي”، وعلى شفتيْه ترنيمة: اللي ما يعرف الصقر يشويه. طبخَت والدتي الطائر الجارج، أثقلت المرقة قليلًا، وناولتنيه كحساء بملعقة نحاسية مبلولة بماء زمزم. هكذا شفيَت، وصار اسمي “شاهين” ترحمًا على الصقر الذي تخللت عصارته مسام روحي.*

في منتصف موسم أمطار غزير لصيف العام 1990، وقفتُ على حافة حائط السطح في منزل أبي، فردتّ ذراعيّ كجناح طائر بللتْه السماء. صرختُ منتشيًا، اجتاحتني رغبة القفز، معانقة الفراغ والتحليق في الأعلى، كنتُ مهووسًا بالفيزياء، مهووسًا فقط، أفكر في اختراع آلة الزمن، والطيران مثل: غرانديزر، توجيه الضربات الصاروخية للأشرار، والعودة مظفرًا بالنصر إلى قاعدة العمليات الحربية “السرية”. على بُعد أمتار بالقرب من باب حديدي صغير ينفذ إلى سلالم المنزل العلوية. جلس عبدالملك الحوثي متحصنًا من المطر، ضاحكًا ومستهزئًا بي، صفّق لجرأتي على الوقوف بتلك الحافة الخطرة، لم ألتفِت إليه، كنتُ أسمعه يصيح محفزًا: هيا اقفز يا عباس بن فرناس!. شيء ما في داخلي كان يأبى أنْ أتراجع، أنْ أظهر مخذولًا أمامه، سيجعله مادة رئيسة يهزمني بها عند كلِّ لقاء يجمعنا، لن يتركني دون أنْ يفلسف الأمر، ويحوّره، ويعجنه بمزيج سخريته وتهكُّمه. جاءني صوته مرارًا: هيا اقفز، كررها وأعادها، إنْ كنتُ مجنونًا فقد كان أنانيًا بشعًا، يعرف أني سأسقط وقد ألقى حتفي، لم يخشَ عليّ تبعات قرار أهوج، متهور وأنا صديق طفولته وصباه، رفيق رحلته وكاتم أسراره، وأمين لحظته. كل ذلك ليس له وزنٌ في قاموسه، أراد أنْ يعيش لحظة الزهو بخداعي، وإنْ كُسِر رأسي ودُقَّ عُنقي

*أقلعَت السماء فجأة عن المطر، وغزا شعاع شمس دافئ هواء قريتنا. اقترب نسيم لطيف يداعب كنزتي المبللة فشعرتُ بالبرد، ضممتُ يدَيَّ حول صدري كمَن يحتضن دفئًا مفقودًا، انحنيتُ قليلًا إلى أسفل، أنزلتُ رِجلي اليمني حتى استقرت بقاع السطح، وقفزت باليسرى إلى أسفل. سِرت في خطوات مرتجفة من البرد إلى صديقي النذل، يضحك، يُعيرني “ياجبان”، يقهقه، مطَّ شفتيْه ورفع أصابعه إلى أعلى متهكمًا “طالما لستَ قادرًا على البطولة لماذا تحاول أنْ تظهر كبطل”، تغضَّنَت ملامح وجهي، شعرتُ بقلبي يقفز إلى رأسي كرصاصة ثائرة، تدفق الدم إلى أوداجي، أوردتي، شراييني، شعرتُ بحرارة تخرج من فتحات مسامّي الدقيقة جدًا، مثل كاوية بخار، جمعتُ كلّ شيء في أوعيتي، في معدتي، حنجرتي، لساني، فمي. وحدث الانفجار: صحت بصوت هادر “أنت أناني سخيف تافه وحقير، كان عليك أنْ تمنعني من تهوُّري، ماذا ستفعل إنْ كنت قفزت وانتهيت ممزقًا، هل كان ذلك سيرضيك أيها النذل، هاه. قل لي هل هذه هي الصداقة أيها البائس الشطف؟”. بُهت الفتى، تسمّر، انهار متأثرًا، احتقن وجهه، واستحال أحمر حنقًا، امتلأ جوف مآقيه، ارتعش بياض عينيْه، سال الدمع صامتًا على خديه، يتأملني غير مصدق ما قلتُه، مستنكرًا ومستغربًا، متعجبًا ومجروحًا. بعد لحظات كان نشيجه واضحًا. يمسح مخاط أنفه بظاهر كفه ثم يمسحها على جلبابه الأصفر. حينها هدأت ثائرتي، كأنما اندلق كأس ماء بارد على جمر غضبي فأطفأه، شعرتُ بذنب فادح، رقَّ قلبي، وتبدّل وجهي إلى ابتسامة عطف، اندفعَت نحوه بذراعيْن مفتوحتيْن، استدار بكتف عدائية، رأسه مُطرق إلى أسفل، ودمعه غزير، احتضنَت رأسه وشرعتُ في تقبيله، جمعتُ كل عبارات الأسف المذكورة في القاموس المحيط، حتى هدأت حشيته، وبادلني ابتسامة خجلى، طوّقتُ ظهره بذراعي ودعوته إلى النزول لبهو المنزل ومنه إلى لعب كرة القدم في الطريق الترابيّ الفاصل بين منزل أبي ومنزل أبيه، رافقني صامتًا، وبينما نحن خارجان، استدار بخطوات متسارعة نحو منزلهم، ناديته، لم يلتفت، سألته “ما بك؟” لم يجب، عاتبته “لا تكن حاقدًا”، اقترب من عتبة دارهم، صحتُ “أنا آسف”، صفق الباب وراءه، قبل أنْ تسأله أمه لِمَ يبدو عليه التأثر، سألها: لماذا يصفنا القبائل دومًا بـ”الأشطاف”؟ ارتدَّ رأس أمه إلى الوراء كمَن يحترس من هجوم مباغت، أعادت تثبيت حلقة شَعرها المطاط، وربتت على مساحة فارغة بجوارها في مجلس أرضيٍّ بأربع فرشات قطنية بالية. تقدم إليها بخطى حزينة. جلس حيث أشارت، أخذت رأسه إلى صدرها، سمع صوت أنفاسها، وحشرجة طفيفة على مجرى حنجرتها إلى قفصها الصدري، كانت جالسة إلى متكأ في الجانب الأيسر من نافذة عريضة بإطارات خشبية ملساء تُطِل على الفناء الواسع بمساحة نصف ملعب. شجرة التين الوحيدة ترفّ بأوراقها وتحجب جزءًا من ضوء شمس ما بعد المطر. دقات عقارب ساعة عتيقة على هيئة بيج بن. هديل حمام في عش رغد بكوة مفتوحة إلى الخارج. الأم تمضغ قاتها المغسول بعناية، رصفَت أعواده بإتقان في كيس شفاف أحمر، أمامها في منتصف الغرفة، انتصبت مداعة نحاسية كمأذنة وقت صلاة الفجر، وضعَت على فوهتها بوري من الفخار على هيئة قُمع، حشته بورق مبلل من تبغ مستورد، وعمّرت عليه هرمًا صغيرًا من الجمر المتقد كأحجار ياقوت كريم، كلما سحبت إلى صدرها دخانًا من القصبة الحلزونية المصنوعة من القشِّ وهيكل الحديد، يضيء الجمر ظلام المجلس الهادئ كبركان تطفو حممُه من قمة جبل غاضب. مسدَت الأم رأس وليدها، داعبَت ودبة حديثة وراء أذنه اليمني، فأسكنته، وطفقت تحدثه بهدوء. أذناه مفتوحتان، عقله متحفز، سمعه مُصغٍ، قلبه ساكن، يتشرب همس والدته في خلاياه، عظامه، نخاعه، أوردته، شرايينه. كما تخلل حساء الصقر مسام حياتي، وجعلني صبيًا من فئة الجوارح ..*

قالت:” بُني.. نحن هاشميون، عليك أنْ تحفظ هذا الأمر جيدًا، أنْ تتصرف في حدوده وإطاره ومستواه الرفيع، شرف العِرق الذي تنتمي إليه يثير غيرة القبيلي، وحين لا يجد أصلًا يرفعه إلى مستواك ينحدر بشتمك، إنهم نواصب على دين معاوية إبن آكلة الأكباد. لكنها ليست أيامنا، لقد تولوا الحُكم والسلطة، وها أنت ترى فسادهم وعبثهم، هنا في صعدة يقولون لك يا سيد إنْ كنت معهم في وئام، ثم يخلعون عنك كل تشريف خصك الله به فيوصمونك بأوصاف قبيحة، وهذا أمر ليس فيه أيّ تعظيم لنا، نحن آل البيت”.
وحديث طويل، سؤال منه وإجابة منها.

*عند صياح الديك، أيقظ بدر الدين الحوثي نجله عبدالملك. في طريقهما إلى مسجد القرية، أفصح الأب عن نيته إرساله لتلقي “العلوم الشرعية” في حلقات درس مجدالدين المؤيدي، ومحمد عبدالعظيم الحوثي. وأردف بحسم “هناك ستجد كلَّ إجابة عن أسئلتك”. حين استدار عبدالملك ناحية أبيه وهز رأسه مستسلمًا، شاهد بدر الدين توهُّجًا في عينيْه، بريقًا لامعًا، من أعماق بؤبؤ العين انطلق البريق كشعاع، مثل مصباح ليزر نافذ، توهج في غبشة الصبح، والشمس لم تزل في عرجونها متوارية وراء سلسلة جبال بعيدة على امتداد وادي مران الأسمر.*

في اليوم الثالث، رأيته جالسًا على مصطبة دارهم، ينكش التراب بعصا قصب، يحاصر نملة ممتلئة، يحفر لها أخاديد، قبضَت على عصاه بإبهام قدمي والسبابة، رفع رأسه إلى الأعلى وكفه اليسرى على جبينه كمظلة، ابتسمَت. علّق ببرود “متى سترتدي حذاءً؟”. لاحت في طرف شفته ابتسامة ساخرة. ضحكت عاليًا، رفعته من ذراعه وأرغمته على مرافقتي للتنزه. اعترفت أني افتقدتُه كثيرًا، وأنَّ إخوتنا تُلزمني مراضاته حتى يشفع ويغفر. بعينيْن مغروستيْن في الأرض، وبصوت بارد قال: لستَ أخي!، اتخذت موقفًا دفاعيًا، واندفع السؤال على هيئة استنكار: ماذا؟، أجاب بحزم: لستَ أخي، لأنك لو كنتَ أخي لكان اسمك شاهين بدرالدين الحوثي، أو لربما لم تكن شاهين أصلًا. انتزعني تعليقه من تسامحي، أربكني، تأتأتُ قليلًا، بحثت عن ردٍّ مقنع، آه: قال الله: إنما المؤمنون إخوة. تبسّم بمكر مُسددًا ضربة خطافية خطيرة: المؤمنون الذين ماتوا، أما اليوم فلم يعُد لهم وجود إلا بعدد الأصابع. تحول النقاش إلى تحدٍّ، بحثت عن كلِّ شيء قرأته، عن كل عبارة حفظتها عن أبي، نبشت كل خُطب الجمعة التي سمعتها من خطيب الجامع، اشتعل عقلي بطاقته القصوى، دُرت عند كل خلية، تحت كل شريان، وراء كُثبان المخ وتلافيفه. فلم أجد. قررت إعلان هدنة بتغيير مجرى الحديث، ورميت الكرة إلى ملعبه: من أين لك هذه الأفكار. ماذا حدث، مالذي جرى لك، أكل هذا لأني أغضبتك قبل يوميْن؟. لوَّح بكفه في المسافة الفاصلة بيننا ” لا، لا عليك”، قال وعيناه تسددان نظرة ثابتة إلى عينيّ “أنت تعرف قدْر محبتي، عيناك المليئتان بلون الفيروز شيء لا يصدق، حين أراك أشعر بامتداد البهجة، لكني رضختُ لقرار أبي بالرحيل إلى ضحيان”.
*- ومتى تغادر؟. سألته.*
– قريبًا، ربما في الغد.

*في مثل تلك اللحظات، يتحول رحيل صديق بمثل هذا العُمر إلى مشهد بكائيٍّ، تندفع مشاعر التأثر، تضطرب، يحضر العناق، ويُصبح الفقد هائلًا والخسارة فادحة، سبعة عشر عامًا في فناء واحد ومنزلين متجاورين كوّنت هذه الصداقة اللصيقة، فلم يكن يُرى أحدنا إلا ويتبعه الآخر كظله، حتى في العداوات نتقاسم الضربات واللكمات في شجار مع صبية القرية، كان الشجار يبدأ بتعليق سخيف على لون عيني، دائمًا ما كانت عيناي مصدر كل النزاع. أتذكر كف عبدالملك على وجنة قريبة “محمد علي” في سوق الطلح، قريبًا من مفرزة راعي أغنام من برط، قبل عيد عرفه بسبع سنوات، كنت واقفًا أنتظر فرصتي لركوب غنمة شاردة، قبضت على صوفها، رفعتُ رجلي اليسرى ولم أكَد أجلس على ظهرها، حتى أطاحت بي يد غليظة إلى الأرض، جرحت جبهتي وانثال الدم سريعًا. نهضت مسرعًا لأرى غريمي واتخذت وضعًا قتاليًا، كان “محمد علي الحوثي” ببدانته المفرطة واقفًا يرسم على شفتيْه ابتسامة واسعة، بليدة مُقززة، مستفزة، أشعلت خلايا الدم البنفسجي في رأسي، وقبل الاشتباك، امتدت يدٌ من العدم وبطحته أرضًا بكفٍّ كالصاعقة، انتفض البدين من بطحته ويده على خده وفي عينيْه ذهول، ثم.. انفجر بالبكاء. وشرع يخذفنا بالحجارة، فعدونا هاربين. من بعيد.. احتضن كلانا عنق الآخر ومشينا متلاصقين كتوأم سيامي من الكتف إلى الكتف، كان السوق يغيب من ورائنا، وعلى الرصيف القريب من شارع ضحيان العام، أقلَّتنا شاحنة زرقاء “دايهاتسو” في مؤخرتها المكشوفة، فتحنا ذراعينا للهواء، قادتنا الشاحنة من مرتفعات الجبال الصغيرة، عبرنا وديانًا وحقول، مررنا بجوار بيوتات متفرقة، قلّدنا صوت الحمير، عواء الذئب، زقزقة العصافير، اقتربنا من حيدان، طارت السيارة في الوادي الفسيح، طار شَعري الطويل ورائي، مددتُ ذراعي عن آخرهما، بدوت كطائرة الشبح، مثل طاووس مُحلق، وفي عيني عبدالملك نظرة إعجاب ما زلت أتذكرها بوضوح.*

هزمني صوتي وتهدج: هل هو الوداع إذن.

*عانقني. ربت ظهري، تراجع قليلًا إلى الوراء، تأمَّل عينيّ بامتنان غامض، ثم عانقني مرة أخرى، تخللت أصابعه شَعر رأسي، عبث بخصلاته قليلًا. جاء صوته من وراء أذني: سأعود في الشتاء!. حين عاد، كان أصفر مثل كَوْرَبا، باردًا مثل جليد، تمثالًا بلا مشاعر، زائغ العينين، لكأنه عاد من رحلة البحث عن ملك الخواتم أمْ كان في معركة مع الموتى بجيم أوف ثرونز ـ الأمر الذي أغاظني أنه اتخذ “محمد علي الحوثي” صديقًا مُقربًا، في الليلة الأولى لرجوعه، بعثت إلى هاتفه رسالة نصية، كتبت: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. وصلني إشعار التسليم. ولم يصلني شيء آخر.*

في ضحيان مسجدٌ قديم، مصبوغ بالجصّ من خارجه، في ساحته المرصوفة بحجارة سوداء مقامٌ أبيض، مكعب الشكل بقبة صغيرة، يرقد في أحشائه رجل دين اسمه الحسين بن الحسن الحوثي. حوله يدور ثلاثة عُميان يستذكرون آيات القرآن الكريم كل عصرية حتى يدنو الغسق، استشعارهم الداخلي باقتراب أذان المغرب يثير العجب، على بُعد خطوات من المقام، باب قصير يؤدي إلى جوف المسجد. جذوع شجر أسطوانية متعرجة تسند سقفًا من ألواح خشبية مسطحة، محراب مصبوغ بالجصّ، سجاجيد كبيرة بالية، في الزاوية اليمنى أريكة ضخمة مغطاة بفرش ثقيلة حمراء. في أعقاب كل صلاة مغرب، يجتمع نفر من الطلبة المريدين الريفيين إلى مجد الدين المؤيدي لتلقي العلوم الشرعية ودروس في الصرف والحساب، المؤيدي عجوز أبيض مُشع بجلباب أبيض وعصابة بيضاء على رأسه، مهيب الطلعة، وفي أصابعه تجري سبحات من حجر اليُسر الثمين حملها معه من الحجاز في ربيع حياته. السبحة نقشها رئيس مشغولات مكة بنفسه. هي لازمة مجد الدين المؤيدي الأثيرة، جزءٌ منه، لم ينفرط عقدها يومًا، خيطها من الحرير الكشميري الخام. فصوصها الصغيرة جدًا من الياقوت والعقيق الإيراني والذهب، كانت سِبحة أسطورية، وكان مجدالدين المؤيدي يعتز بها ويؤثرها على عديد مقتنياته الشخصية. حولها دارت الحكايات، وجرت الشائعاتُ على ألسن الفلاحين البسطاء، قالوا إنها كانت لزيد بن علي في جلباب سترته، ولما ألقاه هشام بن عبدالملك في النار توجَّهت السِبحة، فسأل هشام وزيره: ماهذه؟ قال إنها كانت سبحة علي بن أبي طالب، فأستأثرها هشام لنفسه، ثم طارت بعد نصف قرن إلى العباسيين، ثم اختفَت في عهد التتار، وخرجت في زمن العثمانيين سبحة شخصية لسليمان القانوني، وصارت بعد قرن في يد الشريف حسين -حاكم الحجاز يومذاك-، فرآها الملك الإدريسي وأعجب بها، فناوله، ثم ألفاها سيف الإسلام أحمد حميد الدين في قصر حاكم صبيا الإدريسي خلال حرب 1943، وناولها والده الإمام يحيى فجرت بين أصابعه زمنًا، حين رأى شابًا من هجرة برط بالجوف توسم فيه الإمامة، وضع الإمام يحيى السبحة في كفه وأغلق عليها أصابعه، قال: ما اسمك؟ أجابه الشاب: مجدالدين المؤيدي، هزّ الإمام ذراعيْه بقوة قائلًا: الزَمها واحفَظها فإنها مُباركة. ومن لحظتها وطوال ثلاث وسبعين سنة لم تفارق المؤيدي دقيقة واحدة حتى فارق الحياة في 2007.

*في مغرب ثلاثاء الهزيع الأخير لعام 1995، جلس ابن بدرالدين الحوثي إلى حلقة درس سيده مجدالدين، الطالب الجديد يعرف الكتابة والقراءة، وله شأن بسيط في الحساب، أبعده والده عن مدرسة حسان بن ثابت بعد نشاط نصف سنة، مناهج الدولة التي أقرَّتها وزارة التعليم لم تكن منصفة ومليئة بأفكار الوهابية والإخوان، شقّ على عبدالملك ابتعاده، صاح باكيًا بهياج أفقد والده صبره، أخذه من قفاه ودفعه إلى غرفته، أغلق الباب، وأخرج من الدولاب الخشبي الأصفر عصا خيزران بطول متر، لم يضربه، بل جلدَه، كما يُجلد الزاني، ربما 100 جلدة وأكثر. كان “يُطهره” من كلمات المناهج الدراسية التي علقت بذاكرته، أخرجها دمًا وحبائل سوداء وزرقاء، نقش على ظهره وساقيه وذراعيه مخططًا دمويًا، ثم تركه ينتحب، ومضى إلى سوق مران. جلب ثلاثة كيلو لحم من حانوت جزارة “حمود صابر”، وأمر زوجه بسلقها وإكثار الحساء. في الغداء أعطى عبدالملك كيلوين، وأكل الكيلو الثالث. عبدالملك كان مُقطعًا من الداخل، ممزقًا، مُهانًا، مكسورًا. حين شرب الحساء بفم مرتعش من البكاء والألم، قال في نفسه: هذه الرشوة غير مقبولة. حين عضَّ بأسنانه أولى قطع اللحم أقسم على الانتقام من والده.*

تنحنح مجد الدين المؤيدي في كرسيه العالي، فتح كتابًا كبيرًا وضِع قُبالته بعناية على حمّالة نحاسية، قلّب صفحات الكتب ببطء مرددًا البسملة والصلوات. نظر بعين المعلم من أقصى اليسار إلى اليمين، أجرى بعينيْن شبه مغمضتيْن مسحًا على الطلبة الجالسين تحت عرشه الديني مشرئبّين بأعناقهم باندفاع صِبية. عددهم يتجاوز العشرين. عبدالملك الحوثي جالس إلى جذع عمود من الحجارة، وفي حِجره قلم ودفتر بأربعين صفحة مُسطّرة. بعينيْن حجريتيْن وجسد يابس. وصل صوت مجد الدين المؤيدي حتى أذنيه، دار في تجويف القناة السمعية. اهتزَّت له طبلتيه، عبر القنوات الهلالية، لامس العصب السمعي، انطلق الصوت إلى الدماغ على هيئة إشارات حسّية. لم يستطع الجزء المسؤول عن الإدراك في مخ عبدالملك الحوثي فهم شيء مما يتحدث به العجوز الأسطوري صاحب السِبحة الأسطورية إمام الزيدية الخفيّ. أحسَّ عبدالملك أنه غبيٌّ، أمْ أنَّ طبيعة المعارف التي يتلقّاها تلك اللحظة كانت أكبر من تصوره ووعيه وفهمه لمفاتيح الفقه الزيدي، سأل نفسه: ماذا تعني العبارات التالية: إمامة البطنين، الخُمُس، النسيئة. الغدير، الولاية. ما هي أرض فدك؟، ما الذي حدث في سيقفة ابن ساعدة؟ أين هي صفين؟ ما معنى النابغة؟ الرايات الحُمر؟ تدفقَت أسئلة أخرى، دوّنها في صفحات دفتر الدرس الجديد. في اليوم التالي أفرد صفحة للأعداء الذين يبغضهم معلمه، بمرور شهر كان قد كتب هذه الأسماء في خانة (الحاقدين على آل البيت): أبوبكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، معاوية (وضع تحت معاوية أربعة خطوط) عمرو بن العاص، يزيد بن معاوية، خولي بن يزيد الإصبحي، شمر ذي الجوشن، عبدالرحمن بن ملجم المرادي، هشام بن عبدالملك، علي بن الفضل، نشوان الحميري، أبوالحسن الهمداني، عبدالله السلال، الشوكاني. بعد فترة أدرك أنهم ليسوا على قيد الحياة، في أعقاب مقتل شقيقه حسين الحوثي بالعام 2004، أضاف لائحة أخرى من الخصوم الأحياء: علي عبدالله صالح، علي محسن الأحمر، حميد القشيبي، عثمان مجلي، صغير بن عزيز، يحيى العمري، سلمان رشدي، ثابت جواس (وضع تحت جواس خمسة خطوط بالقلم الأحمر).

*ابتاع عبدالملك الحوثي دفترًا جديدًا بستّين صفحة، قسّمه إلى أجزاء، أفرد لكل جزء عشر صفحات، ثم وضع عناوينَ لها، الجزء الأول: النواصب، الجزء الثاني: أعداء آل البيت، الجزء الثالث: الصحابة المنتجبون، الجزء الرابع: بني أمية، الجزء الخامس: الوهابية، الجزء السادس: الجمهورية. في الجزء الأول، في الصفحة الأولى: كتب الرقم واحد، خطّ دائرة حول الرقم، وكتب على يمينه اسم “شاهين عبدالحميد السبئي”. معاوية بن أبي سفيان كان الرقم اثنين، ابنه يزيد الثالث، الرقم مائة كتب اسم عبدالمجيد الزنداني. في منتصف رمضان الذي يليه، أخرج الدفتر من مخلاته، فتح الجزء الأول. بقلم أسود سائل شطب اسم شاهين، وأبقى اسم والدي عبدالحميد السبئي.*

حين التقيتُه في قبو مزرعة “صالح هبرة” كان قد اخترع قائمة أسماها “الرماديين”، وكتب اسمي بحروف مُقطّعة، كان يجلس محنيًا على حافة السرير، يدور حول خاصرته حزام مُذهب وجنبية عريضة، كرشه بارزة، جسده ينتفخ كل يوم، وفوق رأسه حيث ينام صورتيْن، واحدة لشقيقه حسين والثانية لآية الله الخميني، وبينهما صورة متوسطة لعلي خامنئي المرشد الإيراني. استدار نحوي، ابتسم، وقف. عانقني، قال: ما تزال عيناك شيئًا لم أرَ مثلهما قط. ابتسمت مُعلقًا بمرح: كيف ستجد شبيهًا لعينيّ وأنت تدور من مران إلى ضحيان؟. علت وجهه أمارة ضيق لجلافتي. رفع سبابته مُحذرًا، قال: أهااا، لم أعُد ذلك الفتى الذي عرفته عند شجرة كافور. أعقب عِبارته بغمزة. ولم يبتسم. دار حولي مسترسًلا: أنا اليوم حققت حُلم أبي وأخي وأجدادي، صِرت إمامًا لكل الزيدية، وعليّ أنْ أحيط ذاتي وصورتي هالة من التقديس، مزيجًا من الورع وكثيرًا من القسوة. ثم سكت. توقف ورائي، شعرت أنفاسه تقترب، جمع خصلات شعري من الخلف، رفعهما إلى أعلى كاشفًا قفا عنقي. قرّب شفتيه، همس في أذني اليمنى بصوت جاء من أعماقه: كل شيء كُنت تعرفه عني، ما أحبه وأكرهه، مواقف طفولتي، كراهية أبي، أحقاد خالي، تلصُّصنا معًا على نوافذ حمامات النساء، سيرتي، أخطائي، انحرافاتي، كل شيء تعرفه أو لا تعرفه، سمعتُه أو رأيتُه يبقى في معدتك. قالها وضمّني إلى صدره بقسوة، غرس مخالبه في بطني. انكمشت في مكاني. تأوَّهت، حرّرني من قبضته، وعاد يطوف حولي، قال: هل تعلم ماذا قال جدّي رسول الله؟ لم ينتظر إجابة، وأردف مستطردًا: “إنَّ الله أنزل قطعة من نور، فأسكنها في صلب آدم فساقها حتى قسمها جزءيْن، فجعل جزءًا في صُلب عبدالله، وجزءًا في صُلب أبي طالب، فأخرجني نبيًّا وأخرج علي وصيًا”. وعاد يسأل، ينفخ ذلك الوهج الذي تورم في عروقه، مُتحسسًا جبينه عَلّه يُضيء ذلك القبو اللعين، كان صوته مُختلفًا، خطيرًا، حادًا كشيفرة موسى، كنصلة خنجر، فتاكًا، كان يعوي كذئب، ينفش ألوانه مثل طاووس. قال: أما جبريل فقد صارح جدّي النبي العظيم قائلًا “يا محمد قلّبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم”. تركني واقفًا. شعر باستسلامي، إذعاني لما يقول، وعاد لجلسته، أسند ذراعيه إلى منتصف السرير ومدّ رجليْه في الأرض عن آخرهما. هزّ رأسه وعلى شفتيه ابتسامة منتصر، فاجأني بسؤال ماكر: ما قولك في ولاية الإمام علي عليه السلام؟. آه، هذه العقبة المتسائلة يعرف رأيي عنها منذ زمن، ترددتُ في إجابته، أعرف أنه سيغضب، رفع رأسه إلى الأعلى في إيماءة انتظار الرد، قلتُ محافظًا على هدوئي: تعرف رأيي عنها. هبّ واقفَا على قدمية كمَن لسعه عقرب، اقترب بشدة حتى كاد يلاصقني، نظر إلى عيّني، اخترقهما، رائحة عطر نادر تسللت إلى أنفي، عبق فُلّ مُخبأ في سترته. فغر فاهه، شعرتُ أنه ينوي تقبيلي، تراجعت برأسي قليلًا، قليلًا جدًا، بهدوء، بحذر، امتدَّت ذراعه فجأة لتقبض قفا عنقي، انتصبت حواسي، شيء ما تحرك، رغم الخوف سرى خدر مُقزز أنبت زغب جسدي، شفتاه على بُعد مليمترات قليلة من شفتي، همس بسطوة رجل ساديٍّ، قال: هذا يعني أنك لا تعترف بولايتي؟ ثم ابتعد إلى الوراء بضع خطوات. التقط سلاحًا آليًا نوع كلاشينكوف كان مخبوءًا خلف ستار أخضر، سدّد فوهته إلى صدري، نزعت من عضلات وجهي ابتسامة خوف، وبينما كانت حُنجرتي تُطلق ضحكة مُقطّعة، ممزقة، مرتعشة، مسحوبة إلى أسفل، أسند السلاح إلى كتفه، أغمض عينًا وفتح أخرى، سدّد، وضع أصبعه على الزناد، قبل أنْ أصرخ، سمعت صوت ارتطام إبرة البندقية في خطاف المضرب المعدني. لو أنه قبّلني لكان أهون عليّ من رعشة الرعب في مفاصل قدمي، شعرتُ بخواء في داخلي، أنَّ نخاع العظم بارد، وأنَّ حياتي مُعلّقة في مشنقة بين السماء والأرض، هوى قلبي إلى كاحلي، شعرتُ بالجوع والبرد، برغبة عارمة في التقيؤ. أصدرت البندقية تكة، احتكاك قطعة فولاذ بإبرة نحاس. انفجر عبدالملك الحوثي ضاحكًا بعصبية، اهتزت كرشه وارتعش بدنه. انتفخَت أوداجه وبرزَت عنقه كعنق ربّاع. شُعاع المصباح الخافت في جانب القبو السفليّ ألقى بظلال مخيفة على صورته، بدا مثل مجنون، مريض في حالة خطرة، معتل اجتماعي، سفاح متسلسل، كمجرم يتلذذ بإفزاع ضحاياه، يختارهم وفق لائحة يحدد معاييرها سلفًا، ثم يبدأ دراسة كل ضحية على حدة، يجمع بينهم في خطوط متناسقة طوليًا وعرضيًا، يرصد المتشابهات والمختلفات فيهم، ثم ينفرد بكل ضحية، يمارس رغبته في إشباع لذته بطريقته المهووسة، يلعق عرقهم المتفصد من مسامهم. يتذوقه بلسان خبير محترف، يُحلل نوعية العرق، يفكك شيفراته الوراثية، خارطته الجينية، يلهو في فواصل الألم، يدوس على نقاط الضعف، ينكش وجعًا مندملًا، يُذيب صلابة ضحاياه الرماديين، يُحرقهم على مهل، ببرود، يتأملهم أمامه، ينضجون على صفيح ساخن. لم يكن رجلًا طبيعيًا هذا الذي أراه أمامي، خارت قواي، لم تعُد ركبتاي قادرتيْن على إسناد طولي، وقعتُ على الأرض، صحتُ متشنجًا: أكنتَ تريد قتلي؟ أنا شاهين يا عبدالملك، أنا شاهين، ورددتها ثلاثًا، ثم صككتُ وجهي، جلس القرفصاء يتأمل فجيعتي، أدار رأسه بغرابة، حدّق فيّ، أخرج لسانه ولعق أرنبة أنفي. أأنا دُميته؟ – سألت نفسي، ماهذا اليوم الملعون؟ ما هذا القبو السحيق؟ من هذا المعتوه؟، رجع إلى طرف القبو، جلس على كرسيه الهزّار مُحدقًا إلى أعلى، رُكبتاي مضمومتان إلى عجيزتي، ظهري مقوس إلى أسفل، وجهي مدفون في يدي، جسدي مُتكور على أرضية القبو. كرر سؤاله دون أنْ يشيح نظره عن السقف: هل تبايعني وتعلن البراءة من المشركين وتتولاني كما أمر الله ورسوله، والإمام علي بتولية من أمروكم بتوليهم؟. سكت. ارتفعَت نبرة صوته حِدة: هل تتولاني؟، فكّرت بسرعة محاولًا تغيير مجرى الحديث في مساق آخر، سألته: هل كنت تنوي قتلي يا عبدالملك؟ اعتدل في جلسته. غرس بذراعين مرتجفتين جسده في طاولة المكتب الخشبي، هادرًا: اسمي السيد عبدالملك. يا ابن الـ… ثم توقف. نظرتُ نحوه مُشفقًا، لوّح بكفه اليمنى، نهض، تقدّم، أفرج ساقيْه أمامي مباشرة، ضمّهما، جلس ، قبض ذراعي بمخالب ذئب، تحوّل صوته إلى فحيح: صدّقني لولا أني ابن ناس وأحفَظُ لك صداقتنا وكل شيء فعلناه سويًا لكان لي معك شأن آخر!. اشتدت مخالبه إحكامًا على ذراعيّ، شعرتُ بألم، قال: انظُر كل الذين خالفوا أو عاندوا المسيرة القرآنية، أين هُم وأين نحن؟. عاد صوته إلى طبيعته، استرخت عضلات وجهه، أكمل قائلًا: أنا أحبك، أعشق عينيْك، تبهرني خصلات شعرك المُذهب، أنت شبيه الملائكة، لا أريد إيذاءك. ثم جاء صوته مترجيًا ضعيفًا واهنًا: أنا أحبك ياشاهين، أعشقك. هل تفهم؟ تركتُه يتحدث وأنا ساكن مثل طائر بلله الخوف وأصابه الرعد وأسكنته الفجيعة على ريشه المنتوف في قنّ دجاج. هجعت، أملت رأسه إلى كتفي، طوَقته بذراعي. جعلته يهدأ. بكيت، وبكى، قال في غمرة من دموع أنه لن يتركني دون أنْ يضمن ولائي التام. مسحت بمرفقي جفن عيني اليسرى، قلت: أنا معك كإمام مذهب، كقائد حزب، كصانع تغيير. لكنك لستَ مولاي، أنت سيد الجماعة التي أنتمي إليها، لكنك لستَ سيدي المسؤول عن ديني، لستَ أفضل مني عِرقًا ولا أعلى مني نسبًا أو مكانة. قلت أيضًا: أنا وأنت عشنا معًا طفولة حُرة وحياة جميلة في صبانا الرائع، أكلتُ في داركم أكثر مما أكلتُ في بيت أبي، دافعتُ عنك ودافعتَ عني، أسندتَني وأسندتُك، حمينا ظهر بعضنا، اقترنتُ بك رفيقًا. وها أنت اليوم تُظهر عليّ وتُكرهني ما لا أطيق، كن كما كُنت. لا كما أرادك “محمد عبدالعظيم” و”المؤيدي”. كان صامتًا، يسرح في خياله، أعادته كلماتي إلى أيام فطرته كإنسان قبل أنْ يرتدي فراء الذئب وتنمو مخالبه وأنيابه، قبل أنْ يتجرع كأس السم في حلقات دروس عنصرية، جعلته وحشًا، قبل أنْ تبثَّ أمه همسها في خلاياه وتُرضعه وهم العِرق، قبل أنْ يغشاه موج الأحاديث المختلقة عن رسول الله. قبل أنْ يعيش ثأرًا مع نفسه ومجتمعه على دم الحسين وجثة زيد ومآتم الموتى.

*لم يكن مستعدًا بعد ليُشفى، هل يترك كل شيء بناه من أجل “قبيلي” له شعرٌ خلاب، هل ينزل عن مجدٍ من أجل عينيْن يعشقهما، هل يتخلى عن عرش إمامته وقد لاح له عرش اليمن بأكملها على مسافة أقرب مما يتصور؟. نهض على قدميْه، شبَّك كفيه وراء ظهره، خطى بضع خطوات، أطلق تنهيدة متحسرة، مدّ أصبعه نحو زرٍّ خفيّ تحت طاولة المكتب. اختلط صوت دوي إنذار داخلي بوقع أقدام ثقيلة، فُتح الباب بُعنف، شكّل حُراسه طوقًا نصف دائري يفصل بيننا، رأيته من خلف الأجساد المتشابكة. شاهدته يمسح جفنًا ويُخفي دمعًا فر من عينيْه، بينما جسدي يطير في الهواء إلى الأعلى بين أذرعهم، سمعتُه يصيح: لا تؤذوه. اذهبوا به إلى القلعة فقط !*

في طريقي إلى السجن، كان علي عبدالله صالح يُحلق بطائرته الرئاسية في سماء صعدة قادمًا من نيويورك باتجاه صنعاء، كان بحاجة إلى تلطيف أذنيْه في ساعاته الأخيرة بصوت يُفخّمه. بضوء قناديل سيارات الدولة في انتظاره، بمنام أخير بين جدران دار الرئاسة، كان بحاجة إلى ممارسة حقه الدستوري حتى آخر لحظة. قبل أنْ يُنتزع منه الأمر، ويدور الكرسي عنه ليجلس عبدربه منصور هادي، ويتركه واقفًا. قبل أنْ ينتهي كرجل أول طوال 33 عامًا. قال لكابتن الطائرة أنْ يهبط إلى اقرب مسافة ممكنة فوق جبل مران، رأى من نافذة زجاجية صغيرة عُمال بناء ورافعات إسمنتية وبناءً بدأ في التشكل على هيئة ضريح. شاهد عربة سجن بيضاء تجتاز طريقًا ترابيًا باتجاه الغرب. طلب من مضيف الطائرة قنينة ماء وكأس شاي أخضر. المُضيف الذي انحنى نصف انحناءة بتوقير بروتوكولي تعلّمه في معهد الطيران والفندقة بشارع حدّة قبل ثلاثة أعوام تراجع بضع خطوات إلى الوراء قبل أنْ يستدير نصف استدارة آلية، متجهًا إلى الأمام نحو مقصورة الضيافة. التقط كأسًا زجاحيًا، مسحه بمنديل جاف، ترك صنبور الماء المغلي ينسكب في جوفه حتى النصف، حرّر كيس شاي نوع “ماتشا” أخضر ودلق أوراقه الذهبية في الماء، أحضر آنية كريستال من خزانة علوية مُغلقة. رتّب الطلبات بعناية. ملعقة خشبية صغيرة، ثلاثة مكعبات سُكر مُحلى، ثلاثة مناديل مُثلثة طُبع عليها شعار طائرة اليمنية، قنينة ماء متوسطة نوع “فيجي”، وكأس الشاي. علي عبدالله صالح الجالس على كرسي جلدي وثير، شاهد المضيف الشاب حاملًا طلبه بين ذراعيْن نحيلتيْن، وقبل أنْ يتقوس ظهره وتمتد يداه لوضع آنية الكريستال على طاولة خشبية براقة، سأله: من أين أنت؟. اتسعت ابتسامة المضيف قائلًا: من بني الحارث فخامة الرئيس. اعتدل صالح في جلسته، أعاد عجيزته إلى الوراء، وبكف محترقة التقط قنينة الماء وأفرغها كاملة في جوفه، رفع رأسه إلى مُضيفه. سأله عن اسمه. تحسَّس الشاب تلقائيًا بأصبع واحدة شارة نحاسية مُثبّتة على قميصه الأبيض مكتوبٌ عليها اسمه، قال: أسامة الحارثي.

*شارك “أسامة” في مظاهرات ميدان السبعين المؤيدة للرئيس صالح. كان “عفاشيًا” حتى النخاع، مُتطرفًا في تأييده، حين شاهد رئيسه يظهر مُحترقًا على شاشة قناة اليمن الرسمية، أطلق صرخة مفجعة. كان سخام الحريق يُغطي كل جزء من وجه الرئيس الذي يتلقى العلاج في المملكة العربية السعودية، ذراعه اليمنى مُغطاة بجصّ أبيض طبيّ يُستخدم لتثبيت الكسور. كتب “أسامة” بحرقة عن ذلك الظهور في صفحته بفيسبوك، بعد ساعات تلقى رسالة على الخاص من العميد طارق محمد عبدالله صالح “ابن شقيق الرئيس” يشكره على كلماته وتأييده. دعاه “طارق” لحضور مقيله اليومي بمنزله في شارع بغداد.*

في عصر اليوم التالي، بتمام الساعة الثالثة إلا خمس دقائق، كان أسامة بكامل أناقته يضع قدمه اليمنى على أولى سلالم منزل العميد طارق، الفناء رغم شجيرات الليمون والرمان القليلة والحشائش الخضراء لم يكن رحبًا، دلف “أسامة” المقيل الخاص. فتحة مربعة في الواجهة وُضِعت على إحدى رفوفها صورة صغيرة بإطار فضيّ لقائد الحرس الجمهوري أحمد علي عبدالله صالح. صورة أخرى تجمع طارق وأحمد، في منتصف الرفّ أربع عُلب ذهبية لسجائر كوبية فاخرة نوع MONTECRISTO، في الأعلى صورة قماشية لوجه علي عبدالله صالح، صلعة طارق المنحدرة إلى قفاه كانت مفاجئة، طاقيته العسكرية التي يظهر بها في أغلب صوره على محرك بحث google أخفت تلك الصلعة الشاملة. في منتصف المقيل، قبل دنو الساعة السليمانية تعرف طارق إلى وظيفة أسامة “مضيف ثانوي على طيران اليمنية المدني”، أخرج سيجارًا نائمًا إلى جوار أصابع بنية مُغرية، قضم رأس السيجار بمقصّ صغير، أشعل عود ثقاب. وفي أقل من 30 ثانية كانت سحابة دخان تحجب وجه طارق عن باقي أصدقاء بعدد الأصابع يشاركونه مقيله الهادئ. قال والسيجار يتراقص في أصابعه: “لا يُشعَل هذا التبع الملفوف على أفخاذ الكوبيات الجميلات إلا بعود ثقاب”. جال بنظرة خاطفة على وجوه أصحابه المنتفخة بعصف القات المأكول، مضغ طرف السيجار بفمه، استنشق رائحته، قال: الثقاب يعطيك نكهة لا تجدها في قدّاحة الغاز. أخرج سيجارًا آخر، قضم رأسه، قرّبه إلى “أسامة” المتكئ إلى يساره، حثّه على التقاطه بعبارة واحدة “جرّب”، أشعل “أسامة” السيجار، شفط بعمق، انفجر حلقه بسعال متصل، ارتبك. طارق أخرج سحابة دخان أخرى، مُعلقًا: الرجل الذي لم يذُق نكهة التبغ الكوبي لا يعرف معنى الفخامة. حين استدار أسامة مغادرًا المقيل قبل منتصف الليل، جاءه صوت طارق “انتظر”، أخرج ورقة من درج طاولة خشبية سوداء.كتب بقلم كان معلقًا في جيب ثوبه الأبيض بعض العبارات، طوى الورقة وسلمّها إليه، قال: خُذها غدًا إلى مكتب “عبدالخالق القاضي”. أومأ “اسامة” رأسه بحماس، لم يفتحها. أدخَلها جيب سترته ومضى. بينما ينتظر وصول سيارة أجرة، أسند “أسامة” كتفه إلى عمود إنارة طويل، أخرج الورقة، فتحها، قرأ “الأخ الكابتن عبدالخالق القاضي رئيس مجلس إدارة طيران اليمنية المحترم. يحمل إليكم هذا الخطاب الأخ أسامة الحارثي، وهو مضيف ثانوي في طيران اليمنية، ولا نرى مانعًا من تعيينه مضيفًا في الطائرة الرئاسية. وعلى مسؤوليتنا”.

*ابتهج أسامة لتلك التوصية المميزة، طار فرحًا، قرأها مرة أخرى، وأخرى، تحدث بها إلى أصدقائه المقربين، حدّثهم عن صديقه “طارق”، عن السيجار، عن ضحكته الغريبة، كان يتباهى كونه رجلًا مُهمًا، ومُضيفًا في حضرة الرئيس.*

حين وطأت قدَما أسامة الحارثي مطار صنعاء فجر يوم 22 فبراير 2012. لم يرجع إلى الطائرة الرئاسية، لم يعد لدى الرئيس “السابق” طائرة، ولم يسافر علي عبدالله صالح خارج اليمن مرة أخرى.
..
..
يُتبع ..

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى