مقالات حرة

كبرنا ولم نكبر ..وداعا صديقي عبد السلام

 

بقلم : صالح الحميدي

لم أكن في يوم بمأزقٍ كتابي، ولم يعجزني قط رثاء من رحلوا خلف غياهب الموت دون وداع، فيفيض نبع حزني مرتجلاً وداعاً لائقاً بالأسى والأسف على رحيلهم، لكنني اليوم متجمّداً عاجزاً يحبس الأنين دموع قلمي، وتعصف بي رياح الفجيعة، ربما لأنني لم أخطط مسبقاً لهذا اليوم، ولم يكن ضمن اتفاقنا يا صديقي، وأنا من كان بينه وبين الموت شعرة، يومها أسندت مهمة رثائي إليك، وتحررت من المسؤولية كليا، وليت أني قد سبقتك، لكان أخف عليَّ من عجزي هذا.

طفل أعادني رحيلك على هذا النحو الصادم، فكيف لطفل أن يرثي صديقاً بمقامك السامق، أو يلاحق بالكلمات أربعين عاماً من عمر زاخر بالعطاء، ومواقف، وذكريات ومحطات حياة مليئة بالمغامرات..

كنا طفلين نتسابق في الطرقات الوعرة، دون أن يكون لأحلامنا نهاية، نتسلّق الأشجار من جذورها إلى أعاليها، ولا نخشى العلو فذلك المكان الذي اخترناه منذ البداية، لم نكن كالأطفال وهم يبنون بيوتهم من الرمل، بل بنينا حياتنا من الصفر وصرنا على ما نحن عليه..

كنتَ يتيماً غير أنّ ثوبه لم يكن على مقاسك وسرعان ما مزّقه جسدك الصلب، وتسامقت بكل شموخ عليه، لم أشعر بيوم سوى كوننا أخوين نودع أمهاتنا صباحا ونهيم على وجوهنا في مناكب الأرض، ونعود مع الغروب بالكثير من المشاكل، نلقى على إثرها توبيخ أمهاتنا، وننام إلى جوارهن بسلام، في حين تنهمكن في أحاديث طويلة، وتغرسن أصابعهن في شعورنا ليطردن بحنان غبار الارض والشقاوة.

تجري أمامي الآن الذكريات، ولا أتذكر منها أي صورة لا تجمعني بك، وحين تغيب أنتظرك مثل أرض جدباء تراقب غيمة تهمي فتحيل الجدب خضرة، وتغسل القيظ، فتتضوع في الأرجاء عطراً.. كبرنا ولم نكبر ، كنا أطفالا وظللنا، فحين نلتقي نجدد حكايات الطفولة ونعيش معها أجمل الاوقات..

ويلف شريط الذكريات على اسطوانة الشباب، وما أجملها من ذكريات..غادرنا القرية معا، وكانت الوجهة عدن حيث أولى الخطوات العملية، ذهب زملاؤنا إلى المعسكر في حين ذهبنا إلى قلب المدينة نكتشفها شارعا شارع، ونتفحصها مبنى مبنى، ونبني أحلاما جديدة على طراز المدينة.

انتهينا من الفرجة وتذكرنا مساء ما قدمنا من أجله، فحثينا الخطى صوب المعسكر وهناك تجندنا وواجهنا الصعاب لأول مرة لكننا تجاوزناها كما تجاوزنا من قبلها عقبات كثيرة، ولم تكن تلك المرحلة سوى نافذة عبور لما هو أصعب.

لم تكن حياتنا الطفولية متشابهة إلى حد التطابق فحسب، بل أن أحلامنا كانت واحدة، ولهذا دلفنا معاً عالم الصحافة من بوابة واحدة وأضفنا إلى الأخوة والصداقة زمالة، وعملنا سوياً في صحيفة الشورى ومن ثم الثوري
والنهار والحرية والفرسان وصولاً إلى صحيفة القضية، وكانت صحيفتك وثمرة أحلامك .

وفي كل محطة من محطاتنا نقف لنتعاهد من جديد على الحب والوفاء، كبرنا، لكن لم يكبر أحدنا على الآخر وظللنا ذلكم الطفلين العصيين على الفراق، لذلك لم تفرقنا الحياة ولم تشق صفنا المواقف، ذهب كل منا نحو طريقه الذي رآه صائبا وبقينا نلتقي بمحبة وإخاء وصفاء وتسامح.

شبّت فينا القضايا يا صديقي وعلى اتساع طموحاتنا توسعت الصعاب وتبدلت الظروف التي عصفت بأحلامنا وتطلعاتنا، لكننا تمكنّا منها وتبعنا درب مبادئنا في عالم الصحافة الذي لم يغيّر من حبنا وصداقتنا، برغم كل محطة نزلناها منفردين وكل مدينة ذهبنا إليها وحيدين، وكل فكرة آمن بها أحدنا دون الآخر .. لكننا كنا على قلب طفل واحد بروح رجلين عبث الزمان بكل ما حولهما، ولم يجرؤ أن يعبث بصداقتهم الخالدة..

الموت وحده من استطاع أن يفرقنا يا صديقي، وهو من باغتني بنبأ رحيلك، ولهذا اعذرني فرثاء النفس مهمة صعبة .
المكلوم / صالح الحميدي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى