مقالات حرة

الرقص الشعبي.. لغة الجسد

فارس البيل

يُعد الرقص من أقدم الأشكال التعبيرية التي مارسها الإنسان عبر لغة الجسد للإفصاح عن مشاعره المختلفة، ولعَلّ الرقص قد اقترن بأصوات وموسيقى الطبيعة، فتحرك جسد الإنسان تناغمًا مع إيقاع الصوت، وهناك نظريات كثيرة تُشير إلى نشوء الرقص في المعابد والطقوس الدينية والحربية وغيرها؛ وهو نوع من التفاعل الحركي للإنسان للتعبير عن بعض مكنوناته، متوائماً مع الحالة الشعورية والنفسية، كما لو أن الرقص كلامٌ معبر بأدائه وحركاته، التي تطورت تلقائيًا بلا قواعد ولا أنساق سوى التوائُم والتعبير الذكي عن الحركة مقابل الصوت أو الموسيقى.

غير أن أشكال التعبير من نطق وكتابة وإشارة تطورت وتوسعت فنونها، وظل الرقص، إضافة إلى الموسيقى، لغة فنية للشعوب تجسد فيه موروثها وعاداتها وقوانينها، ولقد توازت الثلاثة الأشكال، الغناء والرقص والموسيقى، وتصاحبت وتكاملت منذ النشأة.

وكان للرقص الجماعي أو الشعبي الحضور الأول باعتبار حاجة القبيلة أو المجموعة والفئة للتعبير عن نفسها أو الترويح، وظلت هذه العادة تُمثل شكلاً معبراً عن كل مجتمع وتميزه بطريقتها، ويبدو أن هذه الرقصات تتشكل من حس فني مقترن بطبيعة لون الغناء الخاص بكل مجتمع، فتجد رقصات كل شعب تشبه موسيقاه وأغنياته وإيقاعاتها. وكما أبدع البشر بالغناء؛ فقد شكلوا الرقص بطرق أكثر إبداعاً، كما لو أن الرقص يترجم الغناء أو الموسيقى والعكس.

ولأن المجتمعات القديمة شهدت الصراعات والانتقالات عبر الجغرافيا، فقد كانت تعتبر الرقص طابعها الذي تقدمه لغيرها، وتعبر به عن هويتها، بعكس تقانات اليوم الحديثة التي تقدم كل مجتمع بأشكال متعددة ووسائل ومواقف وشخوص وابتكارات وأزياء وطعام الخ.

فالرقص كان مصاحباً للحروب والمعارك، يشد من أزر المقاتلين ويرفع معنوياتهم، ويمنحهم الهويّة والانتماء والحماسة، كما كان مصاحباً لاحتفالاتهم وربما أحزانهم.

الرقص الشعبي في اليمن:
في اليمن.. باعتباره شعباً عريق الحضارة، قديم الحضور في التاريخ، وله خصائصه القبلية والمجتمعية التي تحضّه على الحضور والبناء والرغبة في الاكتشاف والتواصل، وبوصفه مجتمعاً قبائلي التنوع فكان من شأن ذلك أن ميّز كل بيئة منه بالعادات والزي والطعام والرقص والغناء الشعبي بأشكاله المتعددة، وكان الرقص حاضراً ومتناسلاً بأشكال متنوعة تلائم البيئة والجغرافيا والعادات والرغبات التعبيرية.

ونظراً لتنوع المجتمع اليمني وحالته التنافسية القبائلية وحالة الفخر والتباهي بالعادات والقبيلة؛ أنتجت كل قبيلة وفئة العديد من أشكال الرقص المقترن بالمواويل والأهازيج والأغاني الشعبية المصحوبة بالآلات البسيطة، واعتُبر اتقان الرقص مهارة تدعو للفخر على عكس امتهان مهنة الغناء والعزف ومن يعملون بها، رغم أن جميعها أشكال فنية تخدم وتكمل بعضها، لكن نظرة القبيلة للفرد المحارب أو الغارم تجعل انخراطه في الأعمال الدنيا مسبة، لكن اتقانه للرقص الشعبي ميّزة.

ولقد شاع الرقص الشعبي بشيوع المجتمع وتنوعه، وبجغرافيته المختلفة، فرقصة أهل الجبل تشبه رقصة المحاربين والفرسان، وفيها من الحركة السريعة والإيقاع المحتشد وإبداء القوة، عوضاً عن مرافقة السلاح الأبيض أو الرامي أثناء الرقصة، بينما بيئة الساحل مثلاً والسهول تميل رقصاتها إلى الألفة والدعة والحركة البطيئة الغنائية المتماشية مع إيقاع الفرح والبساطة والغرام، وفي البيئتين أيضاً تنوع داخلهما في الرقصات، فتختلف منطقة عن أخرى بالرقصة وإن كانتا متقاربين جغرافياً، كما لو أن لكل منطقة أو قبيلة رقصة متميزة لا تشبه الأخرى، فصارت المناطق تعرف برقصاتها، وكلما اتجهت إلى أعالي الجبال كلما كانت الرقصة أكثر حدة وسرعة، بعكس النزول إلى بيئة البحر برقصاتها الهادئة، وبالزي غير المتكلف أو المحتشد .

على أنه لا يقتصر الرقص الشعبي اليمني على الرجال فقط، فللنساء أيضاً رقصاتهن التي تختلف – كما حالة الرجال- من بيئة إلى أخرى ومن قبيلة إلى الثانية، غير أن جُلّ رقصات النساء تميل إلى النعومة والرقص على أنغام الغرام والموسيقى المرحة الطربية بإيقاعاتها المختلفة، ولبعض المناطق اليمنية رقصات مختلطة بين الرجال والنساء، حيث ترتبط أداءات الرقص في الغالب بمناسبات الأفراح كالزواج في المقام الأول والمناسبات الأخرى.

ولعل كثيراً من الباحثين قد رصدوا عددًا كبيراً من الرقصات الشعبية التي تؤديها البيئات اليمنية المختلفة. فهناك من أحصى أكثر من ثمانين رقصة لها علاقة بحالات الحروب والفرح والحزن والعبادة والبطولة وغيرها.

وفي كتاب الرقصات الشعبية اليمنية للمحمدي والشلال؛ يرى أن البيئة اليمنية من أغنى البيئات العربية بالرقص الشعبي والأزياء والفنون واللهجات، ويورد الكتاب عددًا من أسماء الرقصات بحسب البيئة، ومنها على سبيل التمثيل:

مثلاً في محافظة أبين توجد رقصتان، بينما في محافظة حضرموت توجد سبع رقصات، ففي محافظة أبين نجد رقصتي “الُدحيف” و”الّرزَحة”؛ ومحافظة البيضاء رقصة واحدة تسمى ” رقصة البيضاء”؛ ومحافظة الحُديدة أربع رقصات هي “الحقفة” و “الجلّ” و “الفرساني” و “رقصة عطا”؛ وفي محافظة المحويت احتوت على رقصتين “رقصة الكوكباني” و “رقصة السيفية المحويتي”؛ بينما محافظة المهرة احتوت على ثلاث رقصات هي ” رقصة البرَع الَمهَري” و “رقصة الُبدينة” و”رقصة العُريُ”؛ وينتقل لمحافظة تعز التي احتوت على ثلاث رقصات هي “رقصة الرزين والخفيف” و “رقصة الزبيرية” و “رقصة البَرع الحُجري”؛
أما محافظة حضرموت فقد احتوت على سبع رقصات هي “رقصة الزِربادي” و “رقصة غيل بني يَمين” و “رقصة الهبيّش” و “رقصة الغيٌة” و”رقصة القطنِي” و “رقصة العِدة” و “رقصة بني مغراة”؛
محافظة سقطرى فيها ثلاث رقصات “رقصة الّزامل و “رقصة قلّيل مِزمار” و “رقصة السّيبح”؛ وفي محافظة شبوة فيها رقصتان “رقصة بِير علي” و “رقصة نِصاب”؛ وينتقل بعدها لمحافظة صعدة وفيها رقصتين “رقصة النسر” و “رقصة سحار”، ليعود لمحافظة صنعاء وفيها ثلاث رقصات هما ” رقصة البرع الصنعاني” و ” رقصة المزمار” و”رقصة الشُّعوبيّة”؛

أما محافظة عدن فوثَّق بها رقصتين هما “رقصة الليُّوة” و”رقصة الركلة”، وليختتم الرقصات بمحافظة لحج وفيها رقصتان ” رقصة الشّرح” و “رقصة المُركح”، ومحافظة مأرب وفيها “رقصة مأرب”.

وعوضاً عما ذكره الكِتاب؛ هناك رقصات أخرى شائعة بين أغلب القبائل منها رقصة “البرع” ولعلها آتية من البراعة في الأداء والحركة، تنتشر في محافظة إب ومحافظات الشمال، وكذلك الرقصات الأولى والثانية في صنعاء، والبرع الهمداني في همدان وغيرها الكثير، إذ ليست هذه سوى أمثلة تحاول تسجيل الأغلب.

ولعل البيئة اليمنية قد امتاحت بعض مهارات الرقص من تلاقح الحضارات ومنها رقصات القرن الافريقي، ويبدو التأثر بها واضحاً في بعض الحركات والإيقاع مع وضع الطابع الحربي اليمني، كما أن الحاجة للتميّز القبلي شجعت على تطوير فنون الرقص وترسيخها وتوارثها باعتبارها قيمة موروثة عالية الحضور.

كما أن حالة الانفتاح الحديثة وكثرة مناسبات الأعراس والزواج شكلت بيئة مُثلى للغناء والرقص، وتكاد تكون هذه المناسبة هي الأكثر انتاجاً الآن لهذه المواهب والفنون، ومع هذا التطور التقني فإن حالة الحرب والمعاناة وجهت اليمنيين للبحث عن أية مناسبة أو فعل يدعو للفرح، ويخرج اليمني من حالته النفسية المثقلة بالهم والكدر.

ويجد الفن اليمني- رقصاته وأغانيه- بطريقته هذه وبساطته، انتشاراً وقبولاً على نطاق عربي واسع وربما أبعد، إذ ما تزال البيئة اليمنية محتفظة بأشكال تراثية قديمة، وما تزال بيئتها متخمة بالفنون، واليمنيون مع ذلك بحاجة لتقديم أشكال الفنون العريقة لديهم إلى العالم بطرق أكثر اتقان وبراعة وفنية، إذ تحتاج رقصاتهم واغانيهم إلى توثيق وتدريب وإعداد وتأهيل بقيم علمية وقواعد فنية، فاليمن بلا مؤسسات فنية تعتني بهذه الفنون وتدرسها وتخرج فيها مؤهلين، إذ أغلب من يؤدون الرقصات والغناء الآن في اليمن هم كلهم هواة يكتسبون خبراتهم بشكل تلقائي لا بشكل فني أو علمي وهذا سيؤثر مستقبلاً على جودة الموروث وأدائه، وسيعرضه للهدم والضعف والتحوير!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى