مقالات حرة

حكاية صــورة علــى رصيــف وطــن

 

بقلم / أمة الرحمن العفوري

لطالما قلتُ أن عدسة العين تحفظ مشاهد ترمقها عينك حيثما حللت، لتكون في ذاكرتك الإنسانية تاريخ حياتك ومسيرة أيامك، فهي في بؤرتها تضع مركز اهتمامك في شؤونك اليومية فتخلق من المشاهد إما سعادة أو ألما، لتصطف مع مئات وألوف المشاهد التي اختزلتها مسيرة حياتنا.

كما هي حكاية الكاميرا كذلك، شاهد العصر الحديث، وناقل المشاهد، ورسول البلاغ، تنقل لك في أبعادها الثنائية بعفويتها جُملة من الحقائق لا تستطيع أجود المقالات أناقة ودقة نقل انعكاسها من الحقيقة إلى العدسة، ومن ثم الذاكرة الإنسانية، لتغدو اليوم انعكاس الظل، كما أراد لها ابن الهيثم في اليوم الذي قرر اخترعها كهبة الإسلام الحضاري للإنسانية جمعاء.

هنا، دعوني أحدثكم عن حواري الصامت دائما مع الكاميرا، خصوصا عندما أختار اللقطة المناسبة، فهي تبدأ رحلتها الأولى في قطار من الرؤية إلى احدى محطات روحي المتعبة مع زيارات النازحين والبائسين، انتظر اللحظة المناسبة الأكثر عفوية، فلا أومن بعبارات استعدوا للقطة، والعد التسلسلي ثم اطلب من البائس أن يبتسم للكاميرا.

دعوني أحكي لكم قبل أن تصبح الصورة أمرا يدويا للالتقاط، كم من الرحلات التي أرى فيها وهي تجول في ذاكرتي اليومية، وكم من الأبعاد قد تشمل فيها من الأرض والتاريخ والإنسان، وانعكاس الجغرافيا والحضارة والأحلام والآمال المنكسرة لا على عدستها الزجاجية، بل على قلوب متعبة في مركز الصورة.

اليوم استوقفني مجموعة من الصبية والفتيات، عيونهم تملأها قصائد من الفرح، وأغاني البراءة المفقودة على ناصية الحرب وخارطة النسيان، عيونهم معي ترقب اللقطة، كلهم يحيطون بي، كما أحاط الوطن قلوب أبناءه يوما، فتفرقوا شتات على أطراف الصورة الأربعة، وتركوه موحشا في المنتصف خاوٍ على عرشه يتسيّده الصمت.

قوس من الألوان تجمع ثيابهم الرثّة والأقدام الحافية، و الوجوه التي اِلتحفها البؤس وصولة الشمس على ميدان الوَجَنات وغبار الأرض الثمين، ولعلكم لم تستمعوا معي في انعكاس اللقطة إلى أحاديثهم الماتعة عن تفاصيل ما يرونها في قلب الشاشة، وتساؤلات أطفالٍ شاهدوا الوطن بعين أبناءه وتضحيات أباء وأجداد قضوا نحبهم فداء له وتمسكا بإرثه و وحدة ترابه، كما لم يشاهدها غيرهم في عيون بريق الفضائيات والاستوديوهات المكيفة وكاميراتها فائقة الجودة.

هؤلاء الصبية الجالسين معي على الرصيف لم يقسموا القسم الجمهوري ليحافظوا على ترابه الغالي من كل سوء، ولم يتحدثوا السياسية إلا بلغتهم التي تعلموها في حارات البلاد وزقاقها، لا يعرف أحدهم مصطلحات من يتصدرون المشهد اليوم، ولم يسمعوا يوما عن هارفارد واكسفورد، وأنواع الثياب الأوروبية التي نسي بعض من هم في الخارج ثيابنا التقليدية التراثية الأنيقة، بل لا يعرف هؤلاء الأطفال أنواع الأطباق الفاخرة في نهاية كل مؤتمر يناقش قضاياهم، وما يكتب على زجاجات الماء المعدني من تسلسل المكونات، ولكنك لو سألتهم – أي الأطفال – لحدثوك عن معاني القَسَم بلغة من عجنتهم ترابه ومآسيه.

هؤلاء رأوا الوطن من عدسة الكاميرا، وأنا رأيته في أعينهم وأحلامهم، هُم أخذوا من اللقطة اتّحداهم معا أسرة واحدة مع أن كل طفل منهم من عائلة، وأنا أخذت روح الصمود والاستمرار لصناعة مستقبل يستحقونه، أما المشهد الأخير لتلك الأم الواقفة بعيدا هنالك ترْمُقُنا جميعا بصمت، فأنا رأيتها اليمن تنظر أبناءها، وهنا أترك لكم بقية الحكاية في عين كل واحد و واحدة منكم رأت فيها الأم اليمنية الباسلة كذلك.

حدثتكم اليوم عن حكاية صورة على رصيف وطن، وقريبا سأبدأ الحديث لكم عن حكاية وطن على خارطة الغد المشرق، ولكن ليس أي وطن، إنه اليمن وكفاه من الخير أن له من اليمين اسما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى